إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

لا تحرقوا الزعيم

أخاف حين أقلّب الفضائيات العربية وأرى الفترات الطويلة المخصصة في نشرات الأخبار لزيارات المسؤولين والزعماء واستقبالاتهم، وأفهم لماذا يهرب المشاهد إلى القنوات الأجنبية حين يريد معرفة ما يجري في بلده وفي العالم. أتفرج على صور كبيرة ترفع فوق المباني وأسمع أُغنيات تمجّد الزعيم واستعراضات راقصة لتلاميذ المدارس يتكرر فيها الثناء على اسمه وأقول لنفسي: «يا ساتر.. لقد مررنا من هنا}.
ليس أفضل من العراقيين من يستشعر هذا النوع من القلق. ولا أظن أن هناك من يتفوق علينا فيما رسمناه من صور ونحتناه من تماثيل غطت المدن والقرى والسهول والجبال والأهوار وتهادت على زوارق النهرين وسطعت في الألعاب النارية وهبطت على رؤوس الناس من الطائرات بالمظلة. إنها واحدة من أكبر الصناعات المحلية التي تجند لها جيش من الفنانين والمصورين وأصحاب المطابع داخل البلد وخبراء من خارجه. «بزنس» بالملايين.
كان يمكننا أن ندخل موسوعة «غينيس» بالأعداد القياسية لتلك الصور. ولو كانت هناك موسوعة للظواهر الاجتماعية المفرطة، لدخلناها من أوسع بواباتها. النفاق.. مفردة تزعج الضمائر الرهيفة، لكنني لم أجد ما هو أنسب منها لتوصيف الحالة. إن الاعتراف بالعلة أولى خطوات العلاج. لكن يبدو أننا أورثنا الداء إلى الأشقاء ونقلنا العدوى إلى شعوب ما زالت تحبو على درب صناعة الزعيم.
أنظر إلى المشهد وأرى دولا تعيش في بحبوحة وسعادة، تبالغ في تقديم آيات الشكر والولاء لقادتها وهم في غنى عن الكثير منها. إنهم محبوبون لأنهم يوفرون لها الرخاء والاستقرار والسكن والتعليم والعلاج. يبنون لشعوبهم مستقبلها ولا يحتاجون لجوقة الشعراء ومؤلفي الأغاني والملحنين وضاربي الطبول والدائرين في حفلات الزار. ألم يتعلم هؤلاء من درس العراق، ذلك العملاق الثري العريق المبدع الذي بلغ الكارثة؟
كنا، أثناء الدراسة الجامعية، معجبين بأستاذ فرنسي يدعى فرنسيس بال، تخصص في فنون ما يسمى التسويق السياسي. كان الموضوع جديدا، يومها، ونحن نجلس في القاعة نفتح أفواهنا من الدهشة وهو يقول لنا إن خبراء الدعاية في أميركا يمكنهم أن يبيعوا للناس رئيسا للولايات المتحدة. أن يقنعوا الملايين بانتخابه مثلما يقنعون ربة البيت بشراء نوع معين من مساحيق الغسيل. وفيما بعد، وصلتنا شهرة خبير الاتصالات جاك سيغيلا. لقد تعاقد معه فرنسوا ميتران على قيادة حملته الانتخابية، أي أن يبيعه للفرنسيين. وقد نجح خبير الدعاية في مهمته. وكان من ضمن ما فرضه على المرشح الاشتراكي أن يغيّر تسريحة شعره وأن يتخلى عن أربطة العنق العريضة والأطقم الفاتحة اللون. كما أعطاه عنوان خياط لتفصيل بدلات على المقاس، ذات صفين من الأزرار لكي تخفي كرشه، ويجب أن تضاهي أناقته مظهر خصمه اليميني لأن العين تعشق قبل الأذن، عموما.
لكن أبرع خبير لن ينجح في تسويق زعيم لا يفقه أن في الكون إلها واحدا. وفي مقابلة مع سيغيلا نشرت في هذه الصحيفة، أواخر 1999، قال لي إن سفير ليبيا في باريس عرض عليه أموالا كثيرة لكي يتولى مسؤولية الإعلام الخاص بالقذافي ويحسّن صورته في وسائل الإعلام الغربية، لكنه اعتذر عن المهمة المستحيلة بكثير من الأدب والحزم. وكان سيغيلا قد أصدر، يومذاك، كتابا بعنوان «الدعاية مثل المرأة الجميلة.. لا يمكنها أن تمنح إلا ما تملك». إن خبير الدعاية، مهما بلغت فنونه، لا يستطيع تجميل صورة لا يبذل صاحبها جهدا لتحسينها. هل يصلح العطار الفرنسي ما أفسد الدهر العربي أو الصيني أو الكوري؟
كان اسم كيم إيل سونغ، السكرتير الأول السابق للحزب الشيوعي في جمهورية كوريا الشمالية الديمقراطية، لا يذكر إلا مسبوقا بلقب «الزعيم المحترم والمحبوب من ثمانين مليون كوري». ويبدو أنهم كانوا يتعمدون إضافة عدد سكان كوريا الجنوبية إلى الرقم. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي لم يعرفوا ما يفعلون بالآلاف من تماثيل لينين التي أُحيلت إلى التقاعد. ولم يعش الجنرال ديغول لكي يرى ذلك، لكنه رفض، خلال حياته، إقامة نصب له رغم أنه الزعيم الذي قاد فرنسا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية. وبعد 30 عاما من رحيله، أصر أنصاره على الاستكتاب لتمويل التمثال وظلت عائلته تعارض الفكرة.
أرى على الشاشة صورا ضخمة وأسمع عبارات تتغنى بحب رئيس مقبل. واضح أن المطبلين جاهزون، وهم ذاتهم من صفّق وغنى للمخلوع. ولا أدري هل أبتسم أم أبتئس أم أصرخ: لا تعيدوا الخطيئة نفسها. دعوا الزعيم يرَ طريقه، وساعدوه على حل مشكلات البلد، ولا تشوشوا عليه بالحب القاتل ولا تنفخوا في صورته حتى يتحول إلى صنم يصدّق أنه فوق مرتبة البشر، وفي أحسن الحالات إلى ديكتاتور.