د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

مؤشرات ومشاعر!

استمع إلى المقالة

في مثل هذا الوقت من كل عام تتدفق التقارير من الحكومات والشركات والمؤسسات الدولية ومراكز البحث والنشر عن أداء ما جرى خلال العام وتوقعات عام مقبل. ومما يلفت النظر أن المؤشرات الاقتصادية الكلية مثل معدلات التضخم، والنمو الاقتصادي، والبطالة عندما يذكر المسؤولون تحسناً في مؤشراتها تقابَل في أحوال كثيرة برفض واستهجان من عموم الناس. ولهذا التناقض أسباب يحسن بالمسؤولين إدراكها وتداركها؛ حتى لا تتسع الفجوة بين ما يُعلَن من أرقام وما يُدرَك من دلالاتها، وحتى لا تستشري الفجوة بين متخذي القرار والمتأثرين به.

وفي دراسة صدرت في عام 2024 للاقتصاديين الزملاء في «معهد بروكنغز» ريان كامينز، وبن هاريس ونيل ماهوني عن أسباب التناقض بين مؤشرات الاقتصاد الكلي الأميركي وشعور الأفراد بمستويات معيشتهم، أظهرت مؤشرات البطالة أنها أقل من متوسطاتها منذ مطلع القرن، والاقتصاد أظهر نمواً حقيقياً ملموساً، كما أن الأجور زادت بمعدلات أعلى من التضخم. فما هو السبب في الانفصال الملحوظ بين مقاييس انطباعات المستهلكين، مثل رقم ميشيغان القياسي الشهري لشعور المستهلكين المعمول به منذ عام 1978، ومؤشرات ثقة المستهلكين التي تصدر منذ عام 1967، عن المؤشرات الاقتصادية الكلية؟

وتذهب نتائج تتبع الفجوة بين شعور المستهلكين من المواطنين والمؤشرات الاقتصادية الكلية إلى العوامل الآتية لتفسيرها، والتي يمكن أن تعين، إلى حد ما، في تفسير ظواهر مماثلة في بلداننا:

أولاً: الأثر السلبي المستمر للتضخم رغم تراجعه، ففي حين يركز المؤشر الاقتصادي الكلي على معدل ارتفاع السعر وقد يحتفي المسؤولون بانخفاض معدل ارتفاعه، ولكن المستهلك معني بالأساس بمستوى السعر نفسه الذي لم ينخفض.

ثانياً: إن تقدير المستهلك السلبي لزيادة الأسعار قد يكون أكبر من تقديره الإيجابي لزيادة دخله، بافتراض حدوث زيادة دخل تفوق زيادة أسعار ما يستهلكه.

ثالثاً: الانحياز الإعلامي السلبي عن الاقتصاد؛ إذ تشير دراسة مشتركة للاقتصادي جولز فان بينسبيرجين عن الأخبار الاقتصادية على مدار قرنين، إلى أنها تنزع للسلبية منذ عام 1960.

رابعاً: الانحياز السياسي، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى انحياز سلبي أكبر للمواطنين من الحزب المعارض للحكم لا للمتغيرات الاقتصادية الجارية ذاتها، كما أن توقعاتهم أسوأ عن مستقبل الاقتصاد. وفي دراسة تطبيقية أجريت عام 2023، مقارنة بين الجمهوريين والديمقراطيين، أظهرت أن «الجمهوريين يشجعون بصوت أعلى ويستهجنون بضجيج أكبر».

ذكرت أن هذه التفسيرات للحالة الأميركية قد تفيد إلى حد ما، في غياب دراسات مماثلة، في فهم ظاهرة التناقض بين المؤشرات الاقتصادية الكلية حال تحسنها وشعور المواطنين في بلدان نامية. فالوضع في البلدان النامية ذو اختلافات بيّنة يجب استجلاؤها؛ حتى لا ينبري البعض بادعاء أن ما نراه من تناقض ليس مختلفاً عما قد نجده في «أميركا وربما أوروبا وبلدان متقدمة أخرى».

وأول الاختلافات في البلدان النامية، أن كثيراً منها لا يتوفر بها مؤشرات دورية رقمية معلنة عن انطباعات المستهلكين وشعورهم، كتلك التي تستعين بها مثل هذه الدراسات التي أشرت إليها. وثاني الاختلافات، أن المؤشرات الاقتصادية الكلية في أحوال كثيرة تعاني تأخراً في إصدارها في البلدان النامية، وهي بطبيعتها مؤشرات متباطئة ذات نظرة للوراء في بحثها عما كان في فترة زمنية سابقة ولا تلاحق الانطباعات الراهنة للمستهلكين. وثالث الاختلافات، هو ارتفاع حالات الفقر المدقع وسوء توزيع الدخل بما يجعل حالات التحسن النسبي، إن هي حدثت فعلاً، ذات أثر متباين على عموم المواطنين وفقاً لنصيبهم من الدخل والثروة. ورابع الاختلافات، هو مدى مصداقية الخطاب العام في التعامل مع الأرقام الاقتصادية التي تصيبها موبقات الإنكار للواقع والتهوين من الآثار في حالات تراجع الأداء، ثم تصيبها آفات المبالغة في التكرار والتهويل من الإنجازات في حالات التحسن النسبي.

ربما التبس الأمر على بعض المسؤولين في تفسير وممارسة مقولة منسوبة للقائد الفرنسي نابليون بونابرت مفادها أن «القائد هو تاجر أمل»، فالمقصود بهذا الأمل حتماً ليس درباً من دروب الخيال، أو وعوداً واهية. والأخطر أن يصدق المسؤول ما يروّجه فيرتد إليه عمله بما يعقّد مسارات سعيه.

والفيصل في هذا الأمر هو الاستناد إلى المعايير المعتمدة: فالمعايير وظيفتها القياس بانضباط واتساق، كما تهدف إلى تحقيق التوافق من دون تفاوت وانفلات، كما تهدف إلى تحديد نقطة مرجعية لنوعية الأداء. ولخطورة موضوع المعايير؛ خصص له البنك الدولي تقريره السنوي عن التنمية في العالم لعام 2025، الذي صدر مؤخراً تحت عنوان «معايير للتنمية». ويدعو هذا التقرير إلى تبني البلدان النامية المعايير والتوافق معها وتطويرها وهي في سبيلها لتحقيق التنمية؛ ضارباً الأمثلة بتجارب ناجحة من الشرق والغرب في اعتماد المعايير والمقاييس مكوناً غير منظور من مكونات التحديث، لا تقل أهمية عن المكونات المنظورة كشبكات الطرق والمواني وسائر البنية الأساسية.

وفي استعراض التقرير للمعايير ودورها في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، لم يفته التأكيد أن المعايير يمكن البناء عليها في دفع النمو وزيادة الكفاءة، وأن التنمية هدفها في النهاية الارتقاء بمستوى معيشة الفرد بما يقضي على معضلة التعارض بين المؤشرات الكلية، وما يشعره المواطن إذا حققت المعايير ارتقاءً بالخدمات، خاصة التعليم والصحة. كما أنه من شأن المعايير أن تعين في إدارة المخاطر، وزيادة القدرات الحكومية في إنجاز عملها وضبط أولوياتها بما يضيّق الفجوة بين الأداء الاقتصادي الكلي وما يستفيد به المواطن ويشعر به.