رامي الشاعر
مستشار سياسي في روسيا
TT

رسالة إلى الرئيس الشرع ورفاقه في القيادة السورية

استمع إلى المقالة

قبل عام، وفي مثل هذا اليوم، كنت قد نشرت في هذه الصحيفة «الشرق الأوسط» مقالاً أشبه برسالة إلى الحكومة الجديدة في سوريا، باركت فيها انتصار الشعب السوري. في غمار النشوة بالإنجاز التاريخي وفتح صفحة جديدة تتناسب وتضحيات السوريين.

أشرت فيها إلى أن سوريا تقف على مفترق طرق، وبعد مرور عام كامل حافل بإنجازات ونجاحات، ما زالت التحديات كثيرة وصعبة. ومن ثمّ يبدو من الضروري للسوريين و بكل أطيافهم – وفي مقدمتهم قيادة البلاد - أن يأخذوا زمام المبادرة، وأن ينطلقوا من حقيقة أن سوريا اليوم، أمام مرحلة وفرصة تاريخية تؤهلها لتقرير مصيرها، واستكمال استحقاقات هذا النصر ليصبح واقعاً ينعكس في دولة مؤسسات تبنيها الكفاءات السورية.

في المقالة ذاتها، ومن واجب الحرص على سوريا وشعبها، لخصت آليات ملامح المرحلة الانتقالية، مشيراً إلى أن الوضع الجديد سبق أن مرت به تونس ومصر وليبيا وغيرها من البلدان. إلا أن الوضع السوري مختلف؛ فهو أعقد وأكثر اشتباكاً، ولن تكفي نشوة السوريين بالانتصار لمواجهة المحظور، الذي تعمل عليه قوى لا تريد لسوريا سوى تحقيق مصالح محدودة، بغض النظر عن وحدة البلاد وتطلعات أبنائها للحرية والعدالة.

لقد أصبحت مسألة بناء مؤسسات الدولة السورية، مع دخول المرحلة الانتقالية عامها الثاني، مطلب حق وضرورة، بعد أن ارتوت الأرض السورية بأنهار من دماء الشهداء، وعرف الشعب السوري كل ألوان المآسي، مروراً بظلمات السجون والتعذيب والزلازل المدمرة، وانتهاءً بشظف العيش وانقطاع المياه والكهرباء وسائر المرافق، والنزوح، واللجوء إلى شتى بقاع الأرض، ناهيك بكم الدمار الذي لحق بالمدن والقرى. قبل عام، كنت قد أشرت إلى أن نظام الأسد الذي أجبر على مغادرة البلاد، نجح وأجهزته الأمنية القمعية نجاحاً منقطع النظير في أن يجعل الشعب السوري، يستقبل أي قيادة بديلة بالزهور، فقد طال انتظار السوريين للحرية. وما شاهدناه قبل عام من مظاهر الترحيب بالثوار وقادتهم كرد فعل طبيعي وعفوي، هو الترحيب ذاته، والاحتفالات، التي نشهدها اليوم بمرور عام على التغيير، تعكس مزاج السوريين وتطلعاتهم.

الحقيقة، أنني كنتُ على مدى سنوات من القريبين جداً من الملف السوري بكل تعقيداته، وشاركت في مفاصل مهمة مختلفة في توجيه رسائل مباشرة إلى النظام السوري، ولم تنقطع رسائلي ودعواتي السابقة إلى ضرورة وضع آلية هادئة للانتقال السلمي، كما خاطبته مراراً، بأنه قد يدفع ثمناً باهظاً، وقد يصل إلى خروج روسيا من سوريا، بما في ذلك قواعدها، غير أنه كان مأخوذاً بعقلية المنتصر التي أعمت بصره.

ومع أن الضباب لم ينقشع تماماً بعد عن تفاصيل العملية التي جرى بموجبها فرار الأسد من المشهد، لكن الأكيد أن روسيا نجحت للمرة الثانية في أن تُجنِّب سوريا وشعبها نير الحرب الأهلية الواسعة.

المرة الأولى عندما نجحت في التوصل إلى وقف النار وخروج قوات المعارضة التي كانت تحاصر دمشق نحو إدلب. وهو خيار كان يبدو صعباً عليها، لكن الأحداث أثبتت لاحقاً صوابه، خصوصاً أن موسكو واجهت معارضة شديدة من جانب النظام، وكانت قوات «الفرقة الرابعة» تستعد للانقضاض على القوات المنسحبة. ولو قدر لتلك المواجهة أن تقع لكانت العاصمة السورية شهدت أحداثاً دموية لا مثيل لها.

المرة الثانية عندما تدخلت روسيا، بشكل مباشر، خلال معركة ردع العدوان، لمنع الطيران السوري من التحليق نحو حلب، بينما كانت وزارة الدفاع السورية تبث أخباراً غير صحيحة حول عمليات «مشتركة» ينفذها الطيران ضد القوات الزاحفة. علماً أن الطيران الروسي لم يشارك بتاتاً في جميع مراحل العمليات العسكرية التي قام بها مسلحو المعارضة.

لقد كانت البيانات التي صدرت عن قائد «هيئة تحرير الشام» تتعارض والصورة التي رسمها البعض له بوصفه شخصاً تكفيرياً، ونحن في روسيا نظرنا إلى ما هو واقع، بالنظر إلى رغبة الشعب السوري في الخلاص من النظام الذي رحل، بغض النظر عن هوية قادة سوريا الجديدة، لأنها بالنهاية سوف تعكس إرادة السوريين.

لقد تلقينا البيان الذي أصدرته «هيئة تحرير الشام»، والذي تضمن رغبة قوات المعارضة في المشاركة مع روسيا في بناء سوريا المستقبل، وأوعزت موسكو لذلك بعدم التصدي للفصائل المسلحة خلال تقدمها للسيطرة على أهم المدن السورية، ما أسفر عن نجاح عملية ردع العدوان، من دون الانزلاق نحو اقتتال واسع. وبالفعل فقد أسفرت التطورات عن انتقال الحكم لقوات المعارضة السورية بشكل سلمي. بالتزامن مع إخراج بشار والمقربين منه من دمشق.

ولا شك في أن الزمن وحده، سيحكم على مصير سوريا وقادة المرحلة الانتقالية الحالية الذين يواجهون حالياً تحديات غير مسبوقة.

منذ عام، وبعد مرور أسبوع واحد على رحيل نظام بشار، وقبل وقوع أحداث الساحل والسويداء، برزت دعوات للقيادة الانتقالية في سوريا بضرورة توجيه رسائل طمأنة للمجتمع السوري بكل مكوناته. ورغم أن الوضع على هذا الصعيد، ما زال إلى حد بعيد مطمئناً، لكن يبدو من الضروري الانتقال من الصورة الإعلامية المشرقة، إلى أفعال وإجراءات على أرض الواقع.

بناء عليه، وبينما يعكس المشهد السوري حالة من الجدل، أتوجه، بعد عام من الانتصار السوري، ببعض الملاحظات إلى القيادة السورية وعلى رأسها الرئيس أحمد الشرع، منطلقاً من أهمية التعامل الإيجابي مع النقد البناء الذي تحتاج إليه المرحلة الانتقالية. والمقصود هنا هو مواجهة بعض الأصوات التي غايتها فقط النيل من الحكومة الجديدة، وتعمل على نشر حالة من التشويش في الخارج، ومنها بعض الشخصيات السورية، بهدف تقويض ثقة السوريين وأملهم في إمكانية تعافي سوريا، خصوصاً في مرحلة حساسة تمر بها البلاد.

وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن قوة أي دولة، تكمن، في تمكين البيت الداخلي وتقوية المؤسسات. ولا شك أن المؤسسات السورية اليوم، تعاني من ضعف بسبب نقص الكوادر التي أبعدها النظام السابق، وتصل أعدادها إلى مئات الآلاف من الأكاديميين، ورجال الدولة، والخبرات، وحملة الشهادات العليا، الذين ما زال كثير منهم خارج البلاد، وقد عاد آلاف لكنهم واجهوا الإهمال، ومنهم من سعى للعودة منذ الأيام الأولى للتحرير لكنهم صدموا بعبارة «لحين تسوية أوضاع المنشقين».

إن السبيل الوحيد لإخراج سوريا من أوضاعها الصعبة، وانتشال شعبها من حالة الفقر يبدأ بتفعيل مؤسسات الدولة السورية، ورغم الجهود الكبيرة التي تبذلها القيادة الحالية، لكن من الناحية العملية، يمكن القول إن مؤسسات الدولة ما زالت شبه مشلولة، بسبب نقص الكوادر والخبرات، وهذا ينطبق أيضاً على المؤسسة العسكرية التي تبدو أيضاً بحاجة ماسة إلى عودة آلاف الكوادر، للإفادة من خبراتهم لبناء الجيش السوري مجدداً، وتأهيله لحماية حدود الوطن، وتحقيق الأمن والاستقرار، والسيادة السورية.

إنني على ثقة تامة بأن القيادة الحالية تحظى بتأييد جماهيري واسع، ولكن من دون اتخاذ الإجراءات الآنفة الذكر، سيكون من الصعب تحسين الأوضاع في جميع المجالات، فإلغاء العقوبات الاقتصادية على أهميته، لا يكفي من دون تفعيل مؤسسات الدولة بالشكل المهني.

في المقابل، ما زالت الدولة السورية بجاجة إلى تشريعات وقوانين واضحة لضبط عمل مؤسسات الدولة وموظفيها، لذلك لا بد من الإسراع بتشكيل مجلس النواب، والعمل أيضاً على تشكيل لجنة دستورية من المختصين، تبدأ بصياغة الدستور السوري المستقبلي، قبل عرضه على الاستفتاء العام لاحقاً.

- إن تمكين الخطاب الثقافي والإعلامي الرسمي يشكل المقدمة لتوحيد السوريين، وإعادة وجه سوريا الثقافي والمتنوع تاريخياً، في مواجهة حالة الانقسام والكراهية والخطاب الطائفي التي تتصدر وسائل التواصل الاجتماعي، وتتسلل بطريقة أو أخرى إلى وسائل الإعلام الرسمية.

- لقد نجحت تجربة البناء في إدلب كنموذج في إدارة شؤون المحافظة سابقاً، رغم الظروف الصعبة والاخفاقات التي عانت منها في بعض المجالات، ولكن هذا لا يعني القدرة على اختصار سوريا في تجربة إدلب؛ لذلك تبدو مهمة الانتقال من عقلية الجماعة إلى عقلية الدولة بكل مكوناتها أمراً لا مفر منه لإحراز النجاح المطلوب للقيادة الجديدة والمرحلة الانتقالية.

- وفي إطار التحديات الخارجية ما زال الموقف الإسرائيلي مصراً على إعادة رسم خريطة سوريا والتلويح بإدخالها في انفلات أمني، مع الأخذ في الاعتبار بأن سوريا تواجه حالة من الضعف، كنتيجة طبيعية في المراحل الانتقالية. وعلى الرغم من الدور المهم للدبلوماسية السورية التي نجحت في توسيع الانفتاح الدولي على سوريا، لكن لا يمكن تجاهل السباق الدولي والإقليمي القائم لتحقيق مكاسب في منطقة استراتيجية كسوريا، الأمر الذي يتطلب التعامل مع الأطراف المختلفة من خلال مؤسسات الدولة وتوجيه القرار السوري الخارجي في إطار العلاقات الدولية والقانون الدولي.

- ما زلنا ننظر بثقة واسعة إلى التعاون الذي أظهره بحق العالم العربي والمجتمع الدولي مع تحديات نهوض سوريا الجديدة بوصفها دولة مستقرة ذات سيادة. بعد أن كتب شعبها بدمائه، ومعاناته، وصبره، حروفاً من ذهب في التاريخ السوري، وهو اليوم أمام استحقاق قطف ثمار التضحيات، عبر بناء دولة تعكس هوية وثقافة السوريين، وحقهم في رسم نظام الحكم وشكل الدولة الحرة المستقلة.

بناء على ما تقدم، وانطلاقاً من الثقة الكاملة بأن سوريا لن تسقط في هاوية المواجهات الداخلية، وستعبر مرحلتها الانتقالية، التي ستحدد عودة سوريا إلى مكانها الطبيعي في الإقليم والعالم، فقد كررنا مراراً، بأن السلطة الحقيقية اليوم أصبحت بيد قيادة سورية، وأكرِّر ثقتي العالية بالقيادة التي تلبي طموحات الشعب السوري، ومن الضروري لكل الأطراف أن تنطلق من أنها السلطة الواقعية والحاكم الفعلي للبلاد، وليس أمام السوريين بكل أطيافهم إلا التعامل مع هذه الحقيقة، لبناء دولتهم يداً بيد.