عبد الرحمن شلقم
وزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية - الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.
TT

جوردانو برونو... نار العقل التي نعيش بضوئها

يتجمع المواطنون الإيطاليون من كل أنحاء البلاد حول تمثال جوردانو برونو بميدان (كامبو دي فيوري) بوسط العاصمة الإيطالية روما دون انقطاع. السياح القادمون من مختلف بقاع الدنيا يلتفون حول التمثال، ولا يتوقف الازدحام حوله للتصوير. هذه الجموع تزور زمنا مضى، لكنه في ذات الوقت لا يزال حيا شاخصا، ينظر إليهم كما ينظرون هم إليه. هنا أحرق العالم العبقري والفيلسوف الكبير جوردانو برونو حيا. إنه زمن تسكن فيه ملحمة لا تغيب خاضها العقل، مقتحما حصون الجمود والجهل المقدس. جوردانو برونو نور النار الذي يعيش مع كل البشر إلى اليوم في دنياهم الواسعة المتجددة.
هو في أحشاء الهاتف الثابت والمتحرك الذي نحمله أينما حللنا، وفي البراد والكهرباء والطائرة والقطار وجهاز التكييف وجهاز الكمبيوتر والتلفزيون وكل الأدوية وفي الطرق المعبدة وفي المصانع التي تنتج كل ما يستهلكه الإنسان اليوم. ولد هذا الإنسان النار والنور سنة 1548 بمنطقة نابولي الإيطالية، ودرس الفلسفة والرياضيات والعلوم الدينية والأدب والفلك. بدأ حياته راهبا بدير الرهبان الكاثوليك. اندفع الشاب جوردانو إلى دنيا المعرفة، وعاش في مكتبة الدير التي احتوت على الكتب الإغريقية واللاتينية والعبرية والعربية. غاص في عالم الفلسفة، ودرس أفلاطون وسقراط وأرسطو، والفلاسفة العرب وفي مقدمتهم ابن رشد وابن سينا والأفكار الغنوصية والعبرية القديمة. صار عقل الشاب جوردانو حقلا زرعت فيه بذور الشك ونمت لا نقول حديقة، إنما غابة من الأسئلة، وكان الشك هو الثمار التي بدأت تملأ رأسه، وانهمرت أسئلته على أساتذته، وبدأت ملحمته الطويلة الرهيبة في مواجهة التفكير اللاهوتي الكنسي المتحجر. قرع أساتذته في وجهه نواقيس الإنذار والوعيد، وكان رنينها الحارق في رأسه أعلى من نواقيس أبراج الكنيسة، قالوا له بلغة لاتينية فصيحة صريحة: لقد تجاوزت يا جوردانو الخطوط الكهنوتية الحمراء. أسئلة العقل تعيد بناء الجسم، وتعصف بكيان المفكر، فتصبح حواسه وكل ما فيه، روافد تدفق في نهر رأسه. ساقته قدماه المتسائلتان إلى رحاب أوروبا بحثا عن إجابات لثورة عقله المتوقد. خلع رداء الرهبنة، وتوجه إلى سويسرا للتعرف على المذهب البروتستانتي، علّه يجد فيه إجابات ترشُّ بردا على عواصف عقله الحارقة، لكنه غادرها بعد أن لم يجد بها جديدا. زار الشاب الفيلسوف الفلكي كلا من فرنسا وألمانيا، ومارس التعليم، ورفع صوته العالي منتقدا المنهج المدرسي ( السيكولائي)، وفنَّد آراء أرسطو حول الكون، وأيد افكار كوبرنيكوس الفلكية التي تقول بدوران الأرض حول الشمس. يا له من شاب لم يعد يرى أو يسمع إلا بعقله. لقد شرع يجمع بيديه حطب ناره القادمة التي تنتظره في روما. سارعت الكنيسة الكاثوليكية بإلباسه رداء الهرطقة وبدأت ملاحقته الطويلة.
لم يكتفِ الفيلسوف الفلكي بالحديث الشفهي وهو يعلم طلابه بل بدأ يكتب، ونشر كتابه -في العلة والمبدأ الواحد- في ألمانيا، والذي صار من أهم روافد أفكار الفيلسوف باروخ سبينوزا بعد ذلك، كما شرح نظرية كوبرنيكوس. هاجم جوردانو بقوة أفكار أرسطو، ولم يخفِ عداءه بل كراهيته له ووصفه بالحرباء. ونشر جوردانو قصائد شعرية ومسرحيات تسخر من الأفكار الكهنوتية التي تحارب العقل وأفكار الحرية. لقد كان شجاعا هجوميا لا يخاف ولا يتردد في الإعلان قولا وكتابة عما كان يؤمن به. المفارقة الغريبة أنه تنبأ بنهايته، إذ نشر قصيدة قال فيها، إنه أكثر قربا إلى الله من كل القساوسة، وإنه ينتظر لقاءه بشوق العاقل. امتلأت روحه بقوة الإيمان بالله وحتمية المصير الذي كتبه له. ألقى غبار التردد والخوف من كيانه ووجدانه، فعندما اتصل به صديق إيطالي قديم ودعاه للعودة إلى بلاده ووعده بتقديم مساعدة مالية كبيرة، وترتيب لقاء مصالحة مع البابا، وافق جوردانو برونو وشدَّ رحاله إلى روما. وضع بعد وصوله مباشرة في السجن لمدة سنتين وتعرض لأقسى أنواع التعذيب. نُقل من السجن لمقابلة بابا الفاتيكان، الذي طلب منه التراجع صراحة عن كل أفكاره التي أعلنها قولا أو كتابة، ووعده إن فعل برغد العيش الذي يفوق الحلم، وإن لم يفعل فإن النار هي مصيره المحتوم، وستكون نهايته الحرق وهو حي يتنفس ويرى أمام الجموع في قلب روما.
كان ذلك اللقاء بين جوردانو برونو وبابا الفاتيكان، معركة بين عصرين وزمنين بل وقدرين.
زمن الظلام وزمن النور. قال برونو في رده العاصف على البابا: أيها البابا، كلُّ ما قلتُه هو من إبداع عقلي الذي وهبني إياه الله، ولن أتراجع عنه أبدا، ولتفعل ما تريد. شكل البابا محكمة تفتيش عاجلة، وأصدرت حكمها بحرق جوردانو حيا أمام الجموع بوسط روما بعد أن يُقطع لسانه. سيق الفيلسوف الشاعر الأديب الفلكي إلى وسط المدينة، وتُلي الحكم عليه أمام الجمع الغفير الواجم. بعد تلاوة الحكم نظر إلى قضاة المحكمة ورفع إصبعه وقال لهم بصوتٍ عالٍ وبشجاعة عاصفة: وأنتم تنطقون بهذا الحكم باسم إله رحيم وعادل، تشعرون بخوف ورعب، أكثر مما أخاف أنا، قبل أن يقطع لسانه. تدافع الرعاع يلقون الحطب أسفل العمود الذي علق عليه الفيلسوف وأصواتهم تتعالى بالشتائم ضده، وهو ينظر إلى الجميع بهدوء وثبات. بعد وقت قليل صار جسمه رمادا.
في ذلك المشهد الرهيب، حُرق زمن، ودُكَّ عصر لينهار حصن بني من الإسمنت المسلح حول جنان العقل الإنساني المفكر المبدع. جسد برونو وعقله في ميدان كامبو دي فيوري، أوقدت نار العقل العاتية التي أشعلت نور العقل في الفكر والفلسفة والعلم، وفتحت الطريق لإنسان جديد بقوة جديدة، وتدفقت أرتال الفلاسفة على مدى القرون اللاحقة، وفتحت المختبرات والجامعات، وانتصر العقل الذي لا يحمل سيفا ولا رمحا ولا مدفعا على المشانق والمحارق. لولا الفذ جوردانو برونو وناره ونوره لكان كهف الظلام والتخلف إلى زمن مرعب طويل. إنه النار التي نعيش اليوم بفضل نورها.