أضاع التحالف فرصة إطفاء بريق «داعش»

انجذاب شباب للتطوع في حروب الغير ليس ظاهرة جديدة على التاريخ، لكن هناك ملامح جديدة في حالة تنظيم داعش، ملامح كنقاط قوة لكن يمكن استخدامها لإلحاق الهزيمة بالإرهابيين. مثلا ازدياد ملحوظ في عدد الإناث خاصة القاصرات بين المتطوعين لـ«داعش».
الجاذبية الداعشية هي الأساس بخلاف تضليل التحليل اليساري بوجود عناصر الطرد والتغريب بحجة الاضطهاد العنصري والإسلاموفوبيا. مثلا لماذا يطرد المتطوعون لـ«داعش» من البلدان الإسلامية؟
التفرقة العنصرية أو رفض المجتمع للمهاجرين كانت أكثر حدة وإهانة للمسلمين في أوروبا منذ أربعين عاما بأربعة أضعاف مستواها اليوم؛ حيث توجد قوانين تعاقب على التفرقة ومع ذلك لا تجد مثالا واحدا على ارتكاب مسلم أوروبي إرهابا بدافع الآيديولوجيا القطبية (نسبة إلى سيد قطب) للإسلام السياسي قبل 40 عاما.. ومنذ 1948 تدفق متطوعون لنصرة المنظمات الفلسطينية سواء من البلدان العربية أو الأوروبية (نشرت مقابلات كمراسل مع متطوعين من أيرلندا وإيطاليا في معسكرات الفدائيين الفلسطينيين في الأردن ولبنان في الستينات والسبعينات). الماركسيون تطوعوا مع الجبهة الشعبية بينما فضل المحافظون والإسلامويون الانخراط في تنظيمات جذب الإخوان خيوطها. وتدفق متطوعون من بلدان فرنكفونية على جبهة التحرير الجزائرية كما ضمت حركات تحرر كمنظمة المؤتمر الأفريقي في جنوب أفريقيا وحركة فريليموا متطوعين من مختلف الجنسيات.
وفي دراسته عن عنصر الجذب للشباب المثالي والمراهقين يقارن إيان روبرتسون، مؤلف كتاب «الانبهار بالمنتصر: كيف تؤثر القوة على عقلك» تاريخ التطوع في حروب الآخرين، مختارا أمثلة تكاد تكون متطابقة بين شباب بريطانيين تطوعوا في الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي لأسباب مثالية لمساعدة الضعيف، وآخرين تطوعوا للقتال في صفوف «داعش» بسادية قطع الرؤوس وقسوة التحكم في الغير، وآخرين بمثالية مساعدة المظلوم كالأكراد والإيزيديين والأقليات (وكلهم بدوافع عاطفية - المنظرون لهم خلفيات نظرية تحليلية حسب نظريات مثالية كالاشتراكية، أو العدالة الاجتماعية أو كحركة تحرر).
المتطوعون القادمون من بعيد أكثر قسوة ودموية؛ فعمليات كمذبحة مطار اللد ارتكبها يابانيون مناصرون للفلسطينيين سنوات قبل عمليات عنف كأولمبياد ميونيخ وقبل خطف الطائرات التي أدت إلى سبتمبر (أيلول) الأسود عام 1970 وعمليات كمطار عنتيبي 1976.
أشد إرهابيي «داعش» دموية وقسوة ومغالاة وسادية في قطع الرؤوس ليسوا من أبناء مناطق «الدولة الإسلامية» (ليسوا عراقيين أو سوريين أو ليبيين) بل من مواطني أوروبا والشيشان وباكستان.
التشابه في الدوافع العاطفية بين تدفق المتطوعين على إسبانيا قبل 80 عاما (للالتحاق بالجانبين) وعلى «داعش» اليوم؛ فعنصر الجذب مختلف (الانتصارات المزعومة في حالة «داعش» التي أسست ما تدعي أنه دولة كمنطقة حماية مستقلة وهو ما فشلت فيه «القاعدة») في دراسة روبرتسون، لكن هناك فروقا أساسية.
عقلنة دوافع المتطوعين ومثاليتهم تاريخيا في نصرة المظلوم في حركات لم تحقق أية انتصارات وقتها ولا يوجد في الأمثلة التاريخية انتحاريون بحزام ناسف، في حين لا توجد أسباب منطقية للالتحاق بـ«داعش» التي يتسم متطوعوها بالعدمية nihilism كقمة كراهية الإنسانية لتدمير الذات من أجل تدمير الغير وهو مكون أساسي في سيكولودوجية السيدقطبيين الإخوانيين والمتشددين.
الغاية الاستراتيجية التي ينتهي عندها العمل المسلح واضحة في الحالات التاريخية كالاستقلال أو إنهاء العنصرية بينما تغيب في حالة «داعش» مجرد شعارات (كالجهاد غايتنا أو التحاق البنات بجهاد النكاح) وعالم فانتازيا (امتداد لذهنية ألعاب الفيديو واصطياد عدو تمت شيطنته في ذهن الأولاد، وغرام المتطرف الرومانسي في غرافيك ألعاب الفيديو في ذهن البنات مع حالة حب مشاهدة الدماء وقطع الرؤوس ورجم النساء، بسيكولوجية تشبه الإدمان على مشاهدة فيديوهات الانحرافات الجنسية.
تشوش الهوية، فالمتطوع في منظمة فلسطينية أو في الحرب الإسبانية لم يكن لديه شك في هويته كبريطاني أو فرنسي، بينما الداعشي رافض لهويته البريطانية لسلبية التعددية الثقافية multi - culturalism التي خلقت بدورها حاضنة بشرية تدعم الانفصالية الثقافية عن المجتمع (كتصريح مرشد الإخوان قبل عشر سنوات «طز في مصر»، ووصف مسلمي أوروبا «بالجالية» رغم أنهم من مواليد الجيل الثالث). وتاريخيا وجد المتطوعون في الحرب الإسبانية صعوبة للعثور على رفاق طريق في مهامهم المثالية.
اليوم أي مراهقة أو مراهق يسافر عبر تركيا يجد رفاق تطرف/ قتل/ ذبح جاهزين كمعلبات على أرفف سوبر ماركت «داعش» وأخواتها بضغطة زر تليفون ذكي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
فـ«داعش» تستغل آليات دعاية ضخمة عبر شبكة الإنترنت تخاطب مئات الآلاف من شباب مؤهل نفسيا للسباحة في بحر العنف بلا غاية الوصول لشاطئ معين، بينما في حالة الحرب الإسبانية مثلا كانت الوسيلة مجلات متخصصة أو رسائل مكتوبة بخط اليد تخاطب العشرات أو على الأكثر المئات.
من أسباب قوة وتأثير عنصر الجذب الداعشي التنقل عبر محيطات نقل المعلومات (media أدق من كلمة «الإعلام»).
وإذا كانت سبل معالجة الفروق التي ذكرناها معقدة وتحتاج استراتيجية سنوات لإصلاح ما أفسدته سياسات التعدد الثقافي وتأثير تعليم مدرسي كالإخوان والطالبان وأئمة على شاكلتهم، فإن الغريب هو غفلة قيادات تحالف محاربة «داعش» عن إجراءات بسيطة لحظية ورخيصة اقتصاديا لإطفاء وهج الانتصار واستخدام الوسائل والمحيطات الإخبارية نفسها كشبكات التواصل الاجتماعي.
سواء في الرقة، أو الرمادي مؤخرا، فور احتلال «داعش» لمنطقة تقوم باستعراض النصر بملامحه العسكرية وطوابير المقاتلين وينقل الاحتفال كقمة الانتصار عبر «يوتيوب» وشبكات التواصل. الملاحظ دائما أنه عقب عرض النصر العسكري تحدث طفرة في زيادة عدد المتطوعين من أوروبا ومختلف أنحاء العالم للالتحاق بـ«داعش». السؤال المحير هو أن الأقمار الصناعية وبقية درونات التجسس الأميركية تراقب وتصور كل شبر من الكرة الأرضية على مدار الساعة، فلماذا لم تقم طائرات التحالف وصواريخ الكروز الأميركية بإفساد ساعة النصر الداعشي في الرمادي وغيرها من المدن بالقصف وإجبارهم على الهرب كالجرذان والاختفاء، بينما يراقبهم الشباب المنبهر على الإنترنت ويلاحظ إمكانية هزيمتهم وأنهم ليسوا عمالقة بل أقزام جبناء يسارعون بالاختباء؟
ألن يكون إطفاء وميض الانبهار مثل دُش الماء البارد ليفيق به الشباب من مخدر تأثير الانتصار الداعشي على أدمغتهم؟
أرجو ألا يكون مصير سؤالنا هذا مثل مصير سؤال سبقه، حول دور الأقمار الصناعية الأميركية التي لم تكتشف مصدر وطريق وكيف وصلت طوابير استعراض الانبهار (آلاف العربات التويوتا البيضاء البيك آب المحملة بالرشاشات وراجمات الصواريخ) إلى «داعش» أصلا في العامين الماضيين؟