أحمد محمود عجاج
TT

خيارات العالم في أوكرانيا... سياسة الاسترضاء أو المواجهة

قدر أوكرانيا أن يستمر مخاضها لسببين؛ أولاً لأنها ترفض الواقعية السياسية، وثانياً لغياب الوحدة الغربية حول شكل الحل النهائي، فالواقعية السياسية لم تُعرِها القيادة الأوكرانية اهتماماً، لأن الرئيس الأوكراني، عند بدء الحرب، رفض عرضاً أميركياً لتأمين خروجه مع عائلته، وقرر أن يقاتل لحماية سيادة ووحدة أراضي بلاده... هذا القرار كان حاسماً في تغيير الموقف الغربي، وبالذات بعد الأداء غير المتوقع للجيش الأوكراني، واضطرار الجيش الروسي للانسحاب إلى شرق أوكرانيا وجنوبها لمتابعة حرب محدودة، تتحول مع مرور الوقت إلى حرب استنزاف. القرار الأوكراني والموقف الأوروبي الموحد غيَّر مفهوم السياسة الواقعية إلى واقعية جديدة تستدعي خروج كل القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. لكن هذه الواقعية السياسية، مع قضم الجيش الروسي أراضي جديدة في شرق أوكرانيا، بدأت تخسر الإجماع حولها؛ فأميركا ومعها اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ودول أوروبية مثل بريطانيا ودول البلطيق وبولندا لها نظرة مختلفة عن دول أوروبية وازنة في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها؛ أميركا تنظر للصراع من زاوية جيواستراتيجية عنوانها أنه يجب ألا تكسب موسكو الحرب، لأن ذلك يشجع دولاً أخرى، بالذات الصين في نزاعها مع تايوان، ما سيغير طبيعة النظام العالمي المهيمنة عليه منذ الحرب العالمية الثانية. من جهة أخرى، ترى دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا أن الحرب لا يمكن أن تنتهي بهزيمة لموسكو، لأن ذلك دونه مخاوف أهمها أن يلجأ الرئيس بوتين إلى الخيار النووي، وثانياً لأن هزيمة روسيا ليست سهلة، وبالتالي فإن استمرار الحرب سيلحق بأوروبا خسائر اقتصادية، ويؤسس لمرحلة من عدم الاستقرار.
وفق هذا التصور ستنزلق أوكرانيا إلى مرحلة خطرة، لأنها إن فقدت الدعم الغربي الموحد ستصبح عاجزة عن المقاومة، وستضطر مرغمة للتفاوض والقبول بالإملاءات الروسية؛ وهذا بدأت تظهر ملامحه مع تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه «يجب أن نحفظ لبوتين ماء وجهه»، ومع اكتفاء المستشار الألماني أولاف شولتس بزخرف الكلام على الفعل؛ ومن المثير للاستغراب أن ماكرون زار موسكو وخاطب بوتين مرات، ولم يزُر أبداً العاصمة الأوكرانية؛ وهذا لا يمكن تفسيره إلا بحقيقة أن ماكرون شأنه شأن الذين سبقوه في الإليزيه لا يثق بالقيادة الأميركية، ويرى أن أوروبا ستحفظ مصالحها فقط بما يسميه الاستقلال الاستراتيجي. هذا الاستقلال الاستراتيجي ينطوي على قناعة بأن روسيا دولة أوروبية وأن على أوروبا أن تتعايش معها، وأن أميركا لها مصالحها، وليس بالضرورة أن تكون متطابقة مع المصالح الأوروبية، وما حدث إبان عهد الرئيس دونالد ترمب، وما وقع في أفغانستان مؤخراً، يثبت صحة هذه النظرية.
هذا الخلاف الأوروبي - الأميركي حول أوكرانيا وما هو أبعد من أوكرانيا ينطوي على تبعات خطيرة لوحدة الصف الغربي، والتي تجلت في بداية أزمة أوكرانيا؛ ولعل أهم تبعاته هو تشجيع الرئيس بوتين على المضي في خطته، لأنه راهن منذ البداية على تناقض المواقف في المعسكر الغربي، وراهن على أهمية الاقتصاد في حياة الإنسان الأوروبي. فالمواطن الأوروبي، كما يقول روبرت كيغان، مستشار الرئيس بيل كلينتون، في كتابه «القوة والجنة»، اعتاد على السلم ولم يعد يفكر في الحرب، ويحاول حل كل شيء بالتفاوض والتنازلات والمساعدات، ولذلك تتراخى قيادات تلك الدول الأوروبية في المواجهة، وترى أن تسليم دفة القيادة للولايات المتحدة لن يحقق لها السلم المرجو. لكن مشكلة فرنسا وألمانيا أنهما رغم كونهما أهم دولتين في الاتحاد الأوروبي فإنهما غير قادرتين على إقناع بقية الدول في الاتحاد لا بالاستقلال الاستراتيجي ولا برؤيتهما لحل الحرب في أوكرانيا. فدول حيادية، مثل فنلندا والسويد، تتجهان للقيادة الأميركية في «الناتو» لحماية أمنهما، ولا ترى في الاتحاد الأوروبي ونظرية الدفاع الأوروبي الموحد الأمان المرجو؛ وعلى عكس ما يقول الرئيس الفرنسي إن حلف الناتو «ميت دماغياً» يبدو نابضاً بالحياة على عكس نظرية الاستقلال الاستراتيجي التي تبدو غير قابلة للحياة.
في هذه المعادلة الأوروبية - الأميركية تعيش أوكرانيا على خط مسارين: أوروبي - أميركي. المسار الأميركي الذي يرى المواجهة في أوكرانيا أكثر من مجرد سيادة دولة، بل مسألة قيادته للعالم... هذه القيادة تستدعي كما يقول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن انسحاب روسيا كلياً من الأراضي الأوكرانية، أو كما يقول وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، إضعاف الجيش الروسي حتى لا يهدد جيرانه، أو كما يقول الرئيس الأميركي إزاحة بوتين من السلطة؛ لذلك نرى استمرار الدعم العسكري الأميركي الهائل مالياً وعسكرياً لأوكرانيا وفق حسابات مدروسة تخدم هدف تحجيم روسيا ودفعها للتفاوض من موقع الضعف. المسار الأوروبي يرى أن أوكرانيا صمدت، وبوسعها من خلال الدعم أن تطرد القوات الروسية من أراضيها، لكن ذلك لن يخدم السلام الدائم في أوروبا، بل سيفتح باباً لتجدد الحرب في وقت آخر عندما تشعر روسيا أنها أقوى وقادرة على استرجاع أرضها، كما قال بوتين مؤخراً، في قراءة مثيرة للتاريخ، إن بطرس الأكبر لم يذهب للسويد لاحتلال أراضي الآخرين، إنما لاسترجاع أراضي الشعب السلافي. وحتى لا يكرر التاريخ نفسه، فإن الحل الأوروبي هو إرضاء بوتين، بإعطائه، كما قال كيسنجر بعض مطالبه، وإغلاق الملف الأوكراني وإن كان على حساب أوكرانيا؛ هذا الحل يحفظ لأوكرانيا وجودها ويحفظ السلم في أوروبا.
هكذا تجد أوكرانيا نفسها بين القدر الأميركي والأوروبي؛ الأول يريد أن يُثبِّت بالقوة نظاماً عالمياً قديماً يتعرض باستمرار للاهتزاز، ويواجه تحديات من دول صاعدة، بينما الثاني يريد أن يحقق سلماً على نظرية استرضاء جربها مع هتلر ولم تؤدِ للسلم، بل قادت العالم إلى حربين عالميتين، وقد تؤدي، لا سمح الله، إلى ما هو أكبر في المستقبل.