د. طارق فهمي
TT

حدود الأزمة الروسية ـ الأوكرانية ومساراتها المستقبلية

وفقاً لحسابات القوة الشاملة، فإن روسيا ستستطيع حسم المواجهة الجارية مع أوكرانيا بصرف النظر عن طبيعة الأهداف الموضوعة. هناك جُملة من الأهداف يسعى إليها الجانب الروسي ومنها الوصول إلى ترتيبات أمنية شاملة في القوقاز والبلقان ومناطق التماس بالقرب من البحر الأسود، والعمل على إقرار ترتيبات ممتدة لن تقتصر على أوكرانيا، ولكنها ستمتد إلى مواقع أخرى تعزز الحديث عن الفضاء السوفياتي السابق.
وفي خلفية المستهدفات السابقة، يستقر مخطط يقوده الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالإضافة إلى نخبة عسكرية كبيرة، يتبنى في هذا التوقيت الخيار العسكري في مواجهة الجميع.
ولعله سيكون من الخطأ تصور أن الخيار العسكري الروسي موجه فقط ضد دول «الناتو»، ولكنه بصورة أو بأخرى يستهدف أميركا في الأساس، خصوصاً بعد سنوات من التجاذبات الثنائية والمتعددة والتي لم يفهمها الجانب الأميركي الذي راهن على احتمالات انكفاء السياسة الروسية على نفسها، وهو ما لم يحدث، ولا يبدو أنه سيحدث من الآن فصاعداً.
يمكن القول إن روسيا ستسعى إلى «عسكرة السياسة الدولية»، وهو ما قد يشجع الصين على تكرار نموذج «أوكرانيا - روسيا» ليكون «تايوان - الصين»؛ إذ إن بكين لها حساباتها الكبرى في بحر الصين الجنوبي.
ومن المؤكد كذلك أن روسيا لن توقف العمليات العسكرية، إلا بعد أن تطمئن إلى أن الترتيبات الأمنية التي خططت لها تحققت، وهو ما يعني أن أوكرانيا جزء من كل، وأن ما يلي من خطوات هو الأهم.
بشكل أو بآخر تريد روسيا نقل رسائل إلى الغرب والولايات المتحدة بأنها لن تقبل بأنصاف حلول؛ وأن منطقة البحر الأسود ستظل منطقة نفوذ لموسكو، وأن ما يجري الآن سيكون مقدمة حقيقية لما هو قادم من تطورات سياسية واستراتيجية ستفرضها روسيا بالأساس وليس أي دولة أخرى، ومن خلال إعادة الترتيبات الأمنية والاستراتيجية الروسية.
ومع فشل مجلس الأمن في التعامل مع الأمر بأكمله، فإن التخطيط للذهاب إلى الجمعية العامة لتفعيل نظام «متحدون من أجل السلام» لن يكون مجدياً، وسيكون في إطار دلالاته الرمزية وحسب، وهو ما يدركه الجانب الأميركي جيداً.
وبالنظر إلى إدارة الرئيس جو بايدن، فإنها تبدو عاجزة عن تحريك المشهد الراهن؛ إذ لا يمتلك الرئيس الأميركي خيارات مختلفة، ولا يزال يتحدث عن نظام العقوبات الذي فشل أصلاً مع كوريا الشمالية وإيران، كما أن امتداد العقوبات لنظام «سويفت» قوبل بالتحفظ بسبب تأثر محتمل للدول الأوروبية والولايات المتحدة جراء استخدامه.
ومن ناحية أخرى، فإن العقوبات التي تم الإعلان عنها سواء من قبل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، ستؤثر سلباً على الأوضاع الروسية؛ وخاصة أنها اقتربت من قطاع الطاقة الروسي.
ولم يختلف الأمر في أوروبا، حتى أن تجميد ألمانيا لخط «نورد ستريم 2» (وهو لم يعمل بعد) سيكون له تداعيات مكلفة أوروبياً بالمقام الأول.
وكما هو متوقع فإن الانعكاسات والتأثيرات السياسية الداخلية للأزمة ستظهر سريعاً على الجانب الغربي، إذ إن الإدارة الأميركية ستواجه انتخابات التجديد النصفي في ظل انخفاض شعبية الرئيس بايدن؛ فيما ستخوض فرنسا خلال الـ40 يوماً المقبلة انتخابات المرحلة الأولى للرئاسة.
وعلى صعيد الدعم العسكري، فإن قرار واشنطن وعواصم أوروبية أخرى دعم تسليح الجانب الأوكراني لن يغادر النطاق الرمزي، في ظل الترجيح الكبير لقدرات روسيا عسكرياً، وعدم قدرة دول حلف «الناتو» على الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة. ومن المهم هنا كذلك الإشارة إلى أن إعادة تموضع القوات الأميركية في بعض العواصم الأوروبية لا تعني استخدام هذه القوات في أي مواجهة حقيقية في المدى القصير.
وفي ضوء الحقائق والمعطيات والأهداف السابقة، فإنه يمكننا القول إنه لن يكون هناك تفاوض حقيقي عاجل؛ خصوصاً أن الأطراف المرشحة للحوار لا تملك مقاربات حقيقية للتفاوض أو ممارسة دور الوسيط.
وعلى العكس فإن الأطراف المطروحة سيكون لكل منها حساباته وتقديراته السياسية والاستراتيجية، مع الوضع في الاعتبار الأضرار الواسعة التي تهدد الأمن الأوروبي جراء هروب الفارين من جحيم العمليات، وما قد ينطوي عليه الأمر من تسرب عناصر إرهابية إلى داخل أوروبا.
وبناءً على استبعادنا فكرة الحسم السريع للأزمة والعودة للتفاوض نتيجة لغياب الإرادة السياسية الحقيقية؛ فإن البديل الأقرب سيكون الاستمرار في نهج المشهد العسكري لأطول مدة لحين فرض استراتيجية الأمر الواقع، والانتقال إلى فرض استراتيجية الحسم في أوكرانيا ومناطق التماس.
ووفق سيناريو استمرار العمليات العسكرية حتى تحقيق الأهداف الروسية، فإن ذلك سيضع الولايات المتحدة في مأزق سياسي معقد في ضوء ترتيبات أمنية مفروضة من روسيا، وسيكون على واشنطن مراجعة حساباتها؛ إذ سيمثل المشهد الجديد مساساً بالمركز العالمي للولايات المتحدة ورئاستها للنظام الدولي الراهن.
أما الدلالة الأكبر لسيناريو الاستمرار في الخيار العسكري، فإنه قد يمتد إلى مناطق الفضاء السوفياتي الأكبر، وهو ما يعني عدم عودة الجيش الروسي إلى ثكناته قبل إتمام المهمة الكبرى التي يمكن اعتبارها إعادة تجميع الدولة السوفياتية الكبرى، وهو ما تتخوف من تداعياته الولايات المتحدة التي لن تستطيع الدخول في مواجهات مع روسيا في هذه المنطقة.
وفي حال نجاح موسكو في فرض تصورها سريعاً، فإن واشنطن قد تقبل بأنصاف حلول لا تضر بأمنها، غير أن ذلك سيصاحبه إغلاق ملف «توسيع حلف الناتو» في إطار ما سيجري لاحقاً من ترتيبات ستشمل أمن دول الاتحاد السوفياتي السابق.
ومن ثم فإن الاحتكام لأي سيناريو ستمضي فيه الأزمة الراهنة سيكون مرتبطاً بالأساس بالجانب الروسي، وليس أي طرف آخر، خصوصاً مع تجاذب مصالح الدول الأوروبية، واستمرار التباين في وجهات النظر تجاه إقرار منظومة العقوبات المفروضة الآن، والتي تحتاج إلى عدة أشهر لكي تنفذ أو تفعل بالمعنى المرجو منها.
والمعنى الكُلي للأزمة، وفق معطياتها الراهنة، يشير إلى أن روسيا ستمضي في مسار واحد مع التركيز على إتمامه، والانتقال من المخططات الاستراتيجية إلى السياسية، ثم التفاوض من أعلى، ووفق مقاربة مختلفة تؤكد حق روسيا في الدفاع الشرعي عن أمنها بمواجهة أي ترتيبات محتملة لدول حلف «الناتو».
- أكاديمي مصري متخصص في العلاقات الدولية