«أوكرانيا» هزّة كبرى للعالم، ما زالت تتفاعل بانتظار النهايات والتداعيات. وقد بدأت تطرح تساؤلات حول سيناريوات الحل وإمكانية بروز نظام دولي جديد.
الأزمة خطيرة؛ لأن اللاعب الرئيس فيها قوة نووية، ولاقت اهتماماً كونياً؛ لأن مَشاهدها تدور في قلب البيت الأوروبي. لكن رغم ذلك، فإنها ليست الحدث الأول من نوعه. عاشت أوروبا نفسها تداعيات تفكّك يوغوسلافيا، وكان من نتائج ذلك: حرب البوسنة (1992- 1995، نحو 200 ألف قتيل)، فحرب كوسوفو (1999، نحو ألفي قتيل)، واستقلال هذا الإقليم. ثم جاء التوتر الروسي- الأوكراني السابق (2014) وما نجم عنه من الضم الروسي للقرم، وأيضاً الحرب الأخيرة في قره باغ، واضطرابات كازاخستان.
الحرب الحالية وكذا سابقاتها وقعت نتيجة ظروفها الموضوعية الخاصة؛ لكن أيضاً بسبب فشل النظام الدولي. نظام وضع أُسسَه المنتصرون في الحرب العالمية عام 1945، وأعطوه مهمة «حفظ السلم والأمن الدوليين». حدث إخفاق متكرر في المهمة، كما تغيّرت -على مدى العقود الطويلة- معالم الكوكب، واتّسع معها مفهوم الأمن الدولي. عدد الدول قفز من 51 إلى 193، وعدد السكان ارتفع من 2.3 مليار إلى نحو 8 مليارات. برزت تحديّات عدة أمام البشرية تطلّبت تشكيل وكالات تُعنى بالصحة والغذاء والفقر واحترار الأرض، وما شابه. هناك أيضاً التكتلات الإقليمية، والشركات متعددة الجنسيات، والانفجار المعلوماتي الكبير، وهذا كله بات يشكل النظام الدولي الفوضوي والمعقّد.
لكن رغم هذه الشمولية الظاهرة للنظام الدولي، فإنه يتسم بالهشاشة. القوى الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة، لعبت دوراً كبيراً في ذلك، فهي لا تبدو مهتمة بما يكفي لحل الأزمات والنزاعات البعيدة عنها جغرافياً، وكثيراً ما تؤدي تدخّلاتها إلى مزيد من التأزيم والإطالة. الغرب تتملّكه منذ فترة قناعة بعدم نجاعة «حكومة كونية» للعالم وقضاياه، ولذلك ترك المنظمة للخطب السنوية في نيويورك و«تسيير» الأزمات هنا وهناك، عبر مبعوثين أو عمليات سياسية طويلة، تكرّس الواقع أكثر مما تغيّره. الغرب يبدو حريصاً على إبقاء الأزمات في حدودها الجغرافية وعدم اتّساعها، لعلمه بتعقيداتها في الغالب. ولحل القضايا التي يكون هو طرفاً فيها، لا يلجأ إلى المنظمة الأممية إلا في محطات ينتقيها بدقة؛ عند تشريع التدخل في العراق مثلاً!
دول العالم الثالث تدرك هذه الحقيقة، وأقصى ما استطاعت فعله هو المطالبة بالإصلاح. تتساءل دوماً حول مدى صواب بقاء المنظومة بتركيبة مضت عليها كل هذه العقود، وحرمان مناطق مثل أفريقيا وأميركا الجنوبية والعالمَين العربي والإسلامي، أو قوى صاعدة مثل الهند والبرازيل وألمانيا، من مقعد دائم في مجلس الأمن، بينما تتمتع بذلك دولتان أوروبيتان لم تعودا بقوة الماضي.
وبين الغرب والعالم الثالث، كانت مواقف القوى الأخرى غامضة. لكن القمة الأخيرة للرئيسين الروسي والصيني بدت لافتة مع ما حملته من مؤشرات على رغبة في نظام جديد، على الرغم من أن القوتين الكبيرتين تتأرجحان في علاقاتهما تاريخياً بين التحالف والتنافس.
كشفت الأزمة الحالية عن محدودية الدور الأممي والحاجة لنظام أقوى فعلاً. بدأت بمطالبة روسيا للغرب بضمانات عدم اقتراب «الناتو» من حدودها، وعندما رُفض طلبها، غزت أوكرانيا، وها هي الأزمة تأخذ منعرجات أخطر. بوتين صار يشدد على تلبية جميع شروطه، ويهدد باستخدام الزر النووي. الغرب يلعب هو أيضاً دوراً باتجاه «السيناريوهات السيئة». فرض «أم العقوبات» وراح يسعى لعزل روسيا، والجميع يعلم أن هذا العزل يحمل أضراراً ربما تفوق المنافع. ومن هذا المنظور، ليس واضحاً أيهما سيكون أخطر في قادم الأيام: أزمة أوكرانيا أم أزمة الطاقة؟
«أوكرانيا» حدث كبير؛ لكنه جاء مفاجئاً إلى حد ما؛ إذ كانت الدراسات الاستشرافية تتوقّع حدوث تغيير كوني من بوابات الاقتصاد، أو الكوارث الصحية والمناخية أو الانفجار المعلوماتي، وليس من بوابة حرب في أوروبا. المجتمع الدولي يتحسّب منذ فترة لصعود الصين، وواشنطن ظلّت ترسم خططها وفق هذه الرؤية. الدراسات تتوقع تجاوز اقتصاد الصين (الثاني عالمياً الآن)، الاقتصاد الأميركي بحلول 2030، وزحف «التنين» عبر «طريق الحرير» باتجاه أوروبا وأفريقيا.
الحرب الحالية ستنتهي لا محالة؛ لكن يصعب تصوّر أن عالم ما بعد 24 فبراير (شباط) يشبه ما قبله. إنها أكبر أزمة مرشحة لإحداث تحوّل في المشهد الدولي. هناك توقعات ضعيفة بأن تنتهي الحرب بسيناريو تسوية، على غرار اتفاقات مينسك عام 2014. في المقابل، هناك سيناريوان آخران مرجّحان أكثر: سيطرة روسيا على أوكرانيا دون تسوية، وتحوّل الأخيرة إلى دولة ممزّقة وربما إلى مستنقع للروس، أو اندفاع لاستخدام أسلحة الدمار، وتوسيع رقعة المواجهة لدول أخرى (البلطيق مثلاً). هذا السيناريو الأخير هو الأكثر خطورة طبعاً، وفي حال حدوثه، سيفرض الطرف المنتصر منطقه عند معالجة التداعيات، وصياغة نوع من النظام الدولي الجديد.
8:2 دقيقه
TT
ملامح نظام دولي جديد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة