خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

عالم «إكس»

حرف X اللاتيني يستدعي الانتباه. أحياناً يرمز إلى مجهول، وأحياناً إلى ممنوع، وأحياناً إلى عامل قبول لدى الناس لا يمكن تفسيره. وفي حياتنا المعاصرة صار في الرسائل النصية رمزاً ودوداً بمعنى قبلاتي.
لكن هذا الحرف في شكله الهندسي يجسد ظواهر سياسية واجتماعية تستعصي على استيعابنا. حيث تلتقي، تتقاطع، متناقضات لم نظن يوماً أن بالإمكان تلاقيها. الأمثلة على ذلك كثيرة. سأكتفي منها بالظاهرة المحيرة والمهمة خلال العقد الماضي، والمرشحة أن تستمر معنا إلى أجل، وأن تؤثر علينا أكثر من غيرنا في العالم. ظاهرة التقاء الإسلام السياسي مع اليسار الجديد، ممثلاً في حركاته الدعوية. نساء الإسلام السياسي يُقَدمن على أنهن جزء من الحركة النسوية العالمية، وهن اللاتي قضين أعمارهن ينشرن مفاهيم تقمع حرية المرأة وترسخ لفكرة دونيتها. فنانون وأصحاب ميول جنسية مثلية صاروا واجهة لوبي يتبنى قضايا الإسلام السياسي. رغم أن الجماعات الدينية كانت ولا تزال رأس حربة الضغط المجتمعي على الفريقين. العالم التفت أخيراً إلى هذا التحالف فتحدث عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
حرف X يبسط لنا الظاهرة بصرياً. الإسلام السياسي واليسار يبدآن من نقطتين متباعدتين للغاية، ويتوجهان إلى نقطتين متباعدتين بالدرجة نفسها، على الجهة المقابلة، ومرشحتين لمزيد من التباعد في المستقبل. لكن هذا لا يمنع، بل يحتم، أن يلتقيا في نقطة من الزمن، هي التي نعيشها الآن. وهذا التجسيد يساعدنا، كإنفوغرافيك، على فهم متجدد للموضوع:
أولاً: ما الإسلام السياسي؟ يخطئ أناس بالخلط بين الإسلام السياسي النضالي وبين التشدد الديني. الإسلام السياسي ظاهرة سياسية في المقام الأول، وجدت أن أقصر طريق إلى حيازة قاعدة جماهيرية هو الخطاب الديني. في البداية تتبنى قيماً مطلقة. لكنها تعجز عن الاستمرار في ذلك السلوك. أي يستحيل عليها تبني مبدأ قيمي معياري يمكن تعميمه في كل الظروف. في مجتمع تحوز فيه السلطة الاجتماعية تتبنى قيماً قمعية اعتماداً على نصوص دينية. في مجتمع لا تحظى فيه بالغلبة تتبنى قيماً «تحررية» لكي تنال الميزات التفضيلية التي تحصل عليها الأقليات في المجتمعات الغربية. المهم أنه لن يمكنك أبداً أن تعرف القيمة المعيارية التي تتمسك بها وتقدسها. هي نفسها تعد هذا «ذكاءً حركياً». ولديها نوعان من القيم - فقهان - أحدهما فقه الاستضعاف والآخر فقه التمكين. لاحظوا أننا بدأنا بقيمية مطلقة، وانتهينا إلى قيمية نسبية.
هل يختلف اليسار الشيوعي والقومي كثيراً عن ذلك. هل من ثورة انطلقت بشعارات يسارية إلا وكانت ثورة تتبنى شعارات تحررية؟! في الوقت نفسه، هل كان سلوكه في السلطة أقل من كارثة على الحريات على جميع المستويات؟! تذكر أن رواية «1984» التي ستسمع صديقك اليساري يمجدها كتبت أساساً لانتقاد الأنظمة التي نتجت عن الثورات الشيوعية والاشتراكية.
نقطة الالتقاء بين الفريقين الاعتقاد بامتلاك العلوية القيمية. الطرفان لا يعتقدان أنهما مجرد طرف من طرفي قضية، وأن خصم أي منهما طرف آخر، على قدم المساواة في تقديم الحجج والدفوعات. بل يعتقدان أنهما القاضي الذي يملك القول الفصل.
ثانياً: هذا التلاقي مدفوع بحتمية أخرى، جماهيرية هذه المرة. وتجنباً للإطالة سنأخذ مثالاً من مجتمعاتنا المحلية، حيث يملك الإسلامجية القاعدة الشعبية، لكنهم يفتقدون إلى القبول الخارجي. قيمهم المتشددة ولغتهم القديمة القادمة من العصور الوسطى تجعل من الصعب على العقلية الأجنبية قبولهم.
في المقابل يمتلك اليسار امتدادات خارجية، لكنه يفتقد إلى القاعدة الشعبية المحلية، حيث من السهل محاربتهم بالدعاية ضد القيم «الأجنبية» التي يرفعونها. لو تحرك كل فريق منهما في خط عمودي من النقطة التي يبدآن منها لكان كالمستند على قدم واحدة. البديل أيضاً خط مائل كما في حرف X.
في رحلة الإسلامجية إلى القبول الدولي يحتاجون إلى الانتقال القطري، إلى تغيير خطابهم من النقيض إلى النقيض. وأفضل من يقدم لهم هذه الخدمة هو اليسار الواصل لدى القطاعات الأكاديمية والإعلامية في الخارج. في المقابل، في رحلة اليسار إلى القبول المحلي يحتاجون إلى الانتقال القطري، إلى تغيير خطابهم أيضاً لكي يتوافق مع المقبول اجتماعياً. الإسلامجية هنا يردون لهم الجميل. فيقدمون قيم اليسار لجمهورهم المحافظ على أنها خطوة مرحلية في التمكين، «حمار مفيد» على حد وصف أحد قيادات «الإخوان»، إذ تساعدهم في إضعاف السلطة. كلا الفريقين يعتقد أنه يستخدم الآخر مرحلياً.
المشكلة أنه في الحالتين تدفع المجتمعات ثمن هذا التحالف المرحلي العجيب. أنتج ما حدث في إيران، وأنتج تشعب سيطرة «حزب الله» على لبنان، وأنتج سيطرة «حماس» على غزة، وتبرير جرائم ميليشيات الحوثي، وكاد يؤدي إلى سيطرة «الإخوان» على مصر. وفي كل الأحوال النتيجة وضع أسوأ كثيراً من سابقه. ربما من الصعب الاستشهاد بالتاريخ، حتى الحديث، لجيل لم يشهده، أو لا يهتم كثيراً بالنظر المتمعن فيه. الإنسان العادي ليس مطالباً بأن يتحول إلى ناقد تاريخي. الإنسان العادي الطبيعي يعيش لحظته الزمنية.
ربما، أيضاً، من الصعب إقناع المعاصرين بما سيؤول إليه أمر في المستقبل. حرف X يقدم لنا جميعاً المسار الزمني، فلا ننخدع أننا في نقطة الالتقاء. أخيراً، حرف X يستخدم بمعنى «خطأ» وأحياناً «خطر» مع عظمتين وجمجمة. هذا التحالف بين الشيوعيين القدامى، والإسلامجية، خطأ، وخطر قاتل.