مينا العريبي
مساعدة رئيس التحرير السابقة، عملت مديرة مكتب «الشرق الأوسط» في واشنطن بين عامي 2009- 2011 وهي الان رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشيونال» الإماراتية
TT

من أجل ماذا مستعدة أميركا لأن تقاتل؟

«من أجل ماذا مستعدة أميركا لأن تقاتل؟».. كان هذا عنوان غلاف مجلة «ذا إيكونومست» البريطانية في الأسبوع الثاني من ديسمبر (كانون الأول) الماضي. المجلة المعروفة بتأييدها التقليدي للولايات المتحدة نشرت افتتاحية تطالب واشنطن بلعب دور ريادي على الساحة الدولية، وأن تظهر قدرتها على الدفاع عن مكتسباتها. وطرحت المجلة السؤال المهم ولكن لم تجب عنه، لأن الاجابة غير معروفة بعد.
هذا هو السؤال الذي يريد أصدقاء واشنطن وخصومها معرفة الإجابة عنه لوضع استراتيجيات واضحة مبنية عليها. فمنذ صعود الولايات المتحدة كالقوة العظمى الرائدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الآيديولوجيا الأميركية واضحة – القتال من أجل «الحرية» بحسب تفسيرها. كانت واشنطن مستعدة للقتال من أجل الرأسمالية و«حرية السوق» في وجه الشيوعية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، ظهرت ظاهرة الإرهاب وكانت الولايات المتحدة مستعدة للقتال من أجل «الحرية» ونشر الديمقراطية. إلا أن اليوم، لم يعد ذلك واضحاً. فالانسحاب المشين من أفغانستان أنهى ذلك التصور، كما أن حلفاء واشنطن التقليديين في أوروبا وآسيا لا يستطيعون الاتكاء على المسلّمات الأميركية السابقة.
الآيديولوجيا الأميركية لم تعد واضحة، داخلياً وخارجياً، بغض النظر عن الشعارات والخطابات الرنانة. حاول الرئيس الأميركي جو بايدن استعادة منصة «الحرية» من خلال «قمة الديمقراطية» التي استضافها البيت الأبيض نهاية العام الماضي، إلا أن القمة لم تخرج بنتائج ملموسة أو زخم مثلما كانت إدارة بايدن تتوعد.
ومع بداية عام 2022، وتفاقم الأزمة في أوكرانيا، ترغب كل من كييف والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي «الناتو» معرفة مدى التزام الولايات المتحدة بالتحرك الفعلي لحماية أوكرانيا في حال قررت روسيا الإقدام على غزوها. وعلى الرغم من التصريحات الأميركية الشديدة اللهجة باتجاه موسكو، لم تستطع واشنطن بعد دفع روسيا على سحب قواتها المنتشرة على الحدود الأوكرانية. وكان بايدن قد أجرى اتصالاً بنظيره الروسي فلادمير بوتين في 30 ديسمبر لمناقشة الوضع الأوكراني لكنه لم يخرج بنتيجة. وتجري الولايات المتحدة سلسلة من النقاشات مع دول «الناتو»، وعلى رأسها المانيا المؤثر الأهم في أوروبا اليوم، لكن لا يظهر أنها قادرة على حسم الموقف.
وبالطبع الصين تراقب التحركات الأميركية عن كثب؛ إذ كرر بايدن منذ توليه الرئاسة شعارات سلفيه باراك أوباما ودونالد ترمب بأنه يريد التركيز على آسيا والتصدي للنفوذ الصيني، لكنه لم يستطيع بعد تقديم خطط مقنعة للحلفاء في آسيا.
أما إيران، فهي من دون شك لا تضاهي الثقل السياسي الصيني أو الروسي لكنها تعادي الولايات المتحدة وتتحداها علناً. ومع حلول الذكرى الثانية لمقتل قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في 3 يناير (كانون الثاني) الجاري، سعت طهران إلى تهديد أميركا وحلفائها في المنطقة. وعلى مدار يومين استهدفت طهران مصالح عراقية وأميركية بطائرات مفخخة من دون طيار. وكانت يوم الثلاثاء الماضي قد استهدفت قاعدة «عين الأسد» التي تتمركز بها قوات أميركية غرب بغداد، وقبلها بيوم استهدفت قاعدة «فيكتوري» في مطار بغداد، حيث توجد أيضاً قوات أميركية. وحملت الطائرة من دون طيار رسالة «ثأر سليماني». وبينما تصدت أنظمة الدفاع الجوي للطائرات المفخخة، كانت الرسالة واضحة من طهران. وإذا لم ترد واشنطن على هذه الرسائل وبشكل مباشر، ستترسخ فكرة عدم اكتراث واشنطن لما يحدث في المنطقة، وستزيد إيران من تحديها للولايات المتحدة. وهذا ما يظهر في مفاوضات فيينا المستمرة حول الملف النووي من دون نتائج ملموسة وبتعنت إيراني متصاعد. وبينما يصر الدبلوماسيون الأميركيون على أن واشنطن لن تسمح بحصول طهران على سلاح نووي، فإنه من غير الواضح كيف ستمنع ذلك. فهل واشنطن مستعدة للقتال من أجل منع إيران من امتلاك سلاح نووي؟ أم أنها مستعدة للسماح لغيرها، مثل إسرائيل، بالقيام ذلك؟ أم أنها مستعدة لقبول ذلك الاحتمال؟ هذه الأسئلة لا تدور فقط في أذهان الإيرانيين بل في أذهان حلفاء واشنطن أيضاً.
لا بد أن المصالح التقليدية للولايات المتحدة – المصالح العسكرية والاقتصادية – ستبقى محور الاهتمام الأميركي. أما الالتزامات السياسية، فمن غير الواضح ما إذا كانت واشنطن مستعدة للقتال من أجلها.
في الواقع، المعركة الحاسمة بالنسبة لبايدن هي معركة انتخابية قادمة قريباً هذا العام. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل يجري الكونغرس انتخاباته النصفية، حيث يواجه الديمقراطيون منافسة شديدة من منافسيهم الجمهوريين. وتظهر استطلاعات الرأي أن شعبية بايدن تتراجع ومن غير الواضح ما إذا كان بإمكانه إنقاذ شعبيته. وبموجب استطلاع للرأي أجرته «سي إن بي سي» مع مؤسسة «جينج» ونشرته يوم الاثنين الماضي، فإن 56 في المائة من الناخبين الأميركيين غير راضين عن بايدن، ويعتبر ذلك تراجعاً مقارنة بنسبة 54 في المائة في سبتمبر (أيلول) الماضي و49 في المائة في أبريل (نيسان) الماضي. وأفاد استطلاع الرأي بأن غالبية الشعب الأميركي غير راضية عن طريقة تعاطي بايدن مع الصعوبات الاقتصادية وأزمة «كوفيد - 19». وهذه هي الاعتبارات التي تشغل الإدارة الأميركية حالياً.
الانقسامات الداخلية الأميركية تدفع بايدن والديمقراطيين للتفكير ملياً في ما عليهم القتال من أجله. فيصادف اليوم حلول الذكرى الأولى لاقتحام مناصري الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لمبنى الكونغرس، عندما رفضوا نتائج الانتخابات الرئاسية وسعوا لمنع المصادقة عليها بالقوة. مع انتشار المجموعات الإرهابية اليمينية داخل الولايات المتحدة ومع ذكرى اقتحام الكونغرس، على بايدن البرهنة على أنه مستعد للقتال من أجل «الحرية» داخلياً والوفاء بتعهداته لحلفائه خارجياً.