كريستوفر كالدويل
TT

الغرب والمشاعر الدينية المتغيرة!

هذا العام، في ذروة ما يُسمى بموسم عيد الميلاد، كشف استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث حول الدين أن الأميركيين يصفون أنفسهم بأنهم من الروم الكاثوليك (بنسبة 21 في المائة) بأكثر قليلاً من غير المؤمنين بأي عقيدة على وجه التحديد (نسبة 20 في المائة). ويعد جيل الألفية، الذي يضم معظم الأميركيين الراشدين تحت سن 40 عاماً، أول جيل يشكل المسيحيون فيه أقلية.
يشعر العديد من الأميركيين بأن بلادهم أقل تديناً مما كانت عليه في السابق. ولكن هل هذا صحيح؟ من المعروف أن التفاعل بين المؤسسات والسلوكيات والمعتقدات يصعب التخطيط له. حتى لو استطعنا تحديد أن المشاعر الدينية في تغير مستمر، فسوف يكون من الصعب القول ما إذا كنا نتحدث عن بدعة العام الحالي أو توجه القرن الحالي.
أو ربما نتعامل مع عملية أكثر عمقاً. هذه هي الحجة التي ساقها كتاب حظي بقدر كبير من المناقشة ونُشر في باريس هذا الخريف. وفي هذا المقال تؤكد المُنظرة السياسية الفرنسية شانتال ديلسول، أننا نعيش في نهاية الحضارة المسيحية؛ تلك الحضارة التي بدأت (تقريباً) مع اندحار المعاقل الوثنية أمام المد الروماني أواخر القرن الرابع الميلادي وانتهت (تقريباً) باعتناق البابا يوحنا الثالث والعشرين التعددية الدينية وإضفاء الشرعية على الإجهاض.
يحمل الكتاب عنوان: «لا فين دو لا كريتينتيه»، وقد يُترجم إلى «نهاية العالم المسيحي». السيدة ديلسول واضحة تماماً بأن ما ينتهي ليس الإيمان المسيحي، بشعائره وعقائده، بل الثقافة المسيحية وحدها - أي الطريقة التي تُحكم بها المجتمعات المسيحية، والفنون، والفلسفة، والاعتقادات التي نشأت تحت مظلة المسيحية. ولا يزال ذلك كثيراً للغاية. ففي الغرب، يُشكل المجتمع المسيحي مصدر المعايير الثقافية فيه وموروثاته الأخلاقية، ناهيكم عن ساحات الحروب الثقافية الحالية، بكل ما لديهم من جدل حاد حول الضمائر، والتماثيل، وزفاف المثليين، والكهنة المتحرشين بالأطفال.
وفي معظم الأحيان، تدحض السيدة ديلسول ما يضيع مع انتهاء الحضارة المسيحية. إلا أن حججها، رغم قوتها ودقتها الواضحة، تكاد تكون ثانوية في تيمة الكتاب الذي يعد نموذجاً للتعامل المهذب مع المواضيع المثيرة للجدل. وهي واحدة من المستفيدين من التوجهات التي تستنكرها - لنقل: الملحدة، والنسوية، والمنادية للمساواة بين الجنسين، المهاجرة المسلمة - من المحتمل أن تتعرف على العالم الذي تصفه بكلماتها بأنه العالم الذي تعيش فيه ببساطة.
يتمثل النهج البارع الذي تتبعه السيدة ديلسول في دراسة التغير الحضاري الجاري في ضوء ما حدث منذ 1600 سنة مضت. جلب المسيحيون ما تدعوه «الانقلاب المعياري» لروما الوثنية. وهذا يعني أنهم كانوا يثمنون ما يزدريه الرومان ويدينون ما يقدره الرومان، لا سيما في المسائل ذات الصلة بالجنس والأسرة. واليوم تجري إزالة المغالاة المسيحية في الحياة الثقافية الغربية، كاشفة الكثير من الدوافع الوثنية التي تستر عليها.
وللتعبير عن حجة السيدة ديلسول بشكل فظ، فإن ما يحدث اليوم هو تراجع، ولكنه أيضاً إعادة. فنحن نقلب الانقلاب المعياري. نحن نرتد إلى الوثنية القديمة مجدداً.
لم يكن للوثنية تعريف دقيق قط. وكانت الكلمة نقشاً يجمع الرافضين للوحي المسيحي، سواء كانوا من المشركين، أو عُباد الطبيعة، أو اللا - أدريين. كانت لفظة «pagus «يوصف بها المجتمع الريفي. واللفظة اللاتينية «paganus» مثل الكلمة الإنجليزية «heathen» وتعني الوثني، وتحمل معها ازدراء لسكان الريف وساكني الغابات.
بالطبع، لم تكن الثقافة الوثنية في روما إنجازاً بسيطاً. كان لديها فنانوها ومفكروها، فضلاً عن أديانها الطبيعية القوية، ولم يكن من الممكن توبيخها أو إحباطها من الوجود ببساطة. لطالما مارست الوثنية تأثيراً عميقاً في تفكير الغرب المسيحي. وكان عصر النهضة، بإعادة اكتشافها لإبيقور ولوكريتيوس، هي من الأمثلة المألوفة.
اعتقد الوثنيون أن انهيار معتقداتهم يعني انهيار روما. ويعتقد العديد من المحافظين في القرن الحادي والعشرين شيئاً مماثلاً بشأن تآكل القيم المسيحية: أن حريات مجتمعنا المفتوح تعيش متطفلة على ميراثنا المسيحي، وأنه عندما ينهار هذا الميراث، سوف تنهار الحضارة تبعاً له.
ولا ترى السيدة ديلسول الأمور على هذا النحو تماماً. وتشير إلى أن المبادئ الأخلاقية للعصر المسيحي جرى إطلاقها بافتراضات غير معترف بها من القيم الوثنية التي حلت المسيحية محلها. (ولنتأمل هنا مسألة الفلسفة الرواقية القائلة بوحدة الوجود أو قسم أبقراط في الطب). بالطريقة نفسها، فإن تقدمية ما بعد المسيحية اليوم تأتي بمساعدة كبيرة من المسيحية. فلماذا نستخدم الزواج المسيحي لتوحيد الأزواج المثليين على سبيل المثال، بدلاً من مؤسسة جديدة أقل انغماساً في القيم المسيحية؟ لأن تلك هي الطريقة التجزيئية التي يحدث بها التغيير الحضاري.
لذلك، إذا ظهرت حضارة أخرى لتحل محل المسيحية، فلن تكون مجرد إنكار، كالإلحاد أو العدمية. بل سوف تكون حضارة منافسة لها منطقها الخاص - أو على الأقل طريقتها الخاصة في الأخلاق. وقد يشبه ذلك تحطيم المعتقدات التقليدية اليوم الذي يشير إليه المعلقون الفرنسيون باسم «لو ويك». (ويعني هذا المصطلح في الأساس فحواه في اللغة الإنجليزية، باستثناء أن الشعب الفرنسي ينظر إلى العرق باعتباره نظاماً مستورداً بالجملة من الجامعات الأميركية، وبالتالي فإنه بذاته أشبه ما يكون بالعقيدة الدينية).
المسيحية (الدين) فيه تعاليم عن محبة الجار، وتحويل الخد الآخر لمن لطمك، مما هو واضح بشكل مثير للإعجاب. ولكن بالنسبة إلى المسيحية، يمكن أن تكون الثقافة هذه مصدراً من مصادر التضارب. فالمسيحية أنتجت بعض المتعصبين المعاندين، على سبيل المثال. ولكن كان هناك دائماً توتر قائم بين تعاليمها وسعيها إلى السلطة السياسية.
وتشعر السيدة ديلسول بالقلق لأن «لو ويك» لا يملك مثل ذلك التردد. قواعد الكلام، ورفع الوعي في المدارس الابتدائية، إعلانات الخدمات العامة للشركات - من بعض النواحي، نظامنا العام أصبح يشبه نظام روما الوثنية، حيث كان الدين والأخلاق منفصلين. كان الدين مسألة تخص العائلة. والأخلاقيات كانت محددة وواجبة من قبل نخبة المجتمع، مع نتائج كئيبة لحرية الفكر.
وسواء كان المجتمع متسامحاً مع الأفكار المتنافسة، أو لم يكن، فإن الأمر لا يتعلق بالمكانة الآيديولوجية العاطلة التي يتمتع بها زعماؤه بقدر ما يتعلق بموقفهم في دورة تاريخية معينة. عندما نجح المسيحيون عام 384 الميلادي في إزالة مذبح النصر الوثني من مجلس الشيوخ الروماني، حيث كان قائماً منذ ما يقرب من أربعة قرون، أدرك رجل الدولة الوثني سيماخوس أن التسامح في روما سوف يُرفع من الآن فصاعداً عن أولئك الذين شيدوه.
والناس يجدون مثل هذه المشاعر ملهمة. لكن الأنظمة لا تفعل ذلك في المعتاد. وبعد عقد من الزمان، كان الإمبراطور المسيحي ثيودوسيوس يحظر الألعاب الأولمبية على أساس وجود الكثير من الانكشاف فيها - دون أي اعتراض من الحس السليم. إذ تحولت الحكمة التقليدية إلى النزعة الدوغماتية. ولا يزال الأمر كذلك في أغلب الأحيان.
* خدمة «نيويورك تايمز»