أين نحن أمةً من تحقيق وبلوغ المحصلة المأمولة لهذه المعادلة المثالية التي تندرج تحت بند المؤجل من استحقاقات أفراد هذه الأمة، حيث لم يستطع أعتى عتاة مفكريها وفلاسفتها - على اختلاف توجهاتهم وتخصصاتهم - إنفاذ خلاصة تشخيصهم للأزمة إلى واقع الحال العربي، بل تستمر جدليتها وتناقضاتها في العقول والنفوس والأفعال لدى الممارسة العملية على خطوط التماس اليومية بين «الأنا» و«الآخر»، فنتعاطى بعضنا مع بعض بمنطق يبتعد كل البعد عن نقاط تلاقينا الديني المستند إلى رسالة واحدة وتراث مشترك (=إبراهيمي)، لتتهاوى تلك المشتركات على صخرة «التمدن» من دون أن تشفع لها الصيغة «المدنية» التي استقرت عليها الأديان لاستحضار ما تصبو إليه الرسائل السماوية من قيم الحق والعدل والمساواة والفضيلة والسلام والتصالح حيث «الكل في واحد»، كأساس لنهوض الدولة التي يقف على أركانها المجتمع الحضاري الأسمى.
أقول قولي هذا، والجدل في أوجه بين ما يجوز قوله ولا يجوز عند تهنئة المسيحيين بأعيادهم... فهذا قولٌ أو فعلٌ حلال وذلك في خانة الحرام، وتتحول مسألة السماح بإقامة الاحتفالات الدينية أو إظهار رمزياتها على مستوى معتنقيها إلى جرم يقع عليه حد التكفير والوعيد بنار جهنم وشجرة الزقوم! لينسينا هذا الجدل التفصيلي والهامشي عن روحانية وجوهر هذه المناسبات الدينية، التي تحتفي، في الأصل، بنموذج المسيح الإنساني - عليه السلام – لإعادة التفكر في مكانة «عيسى بن مريم» لدى المسلمين وفي آيات الخالق ومعجزاته، التي أكرمه الله بها، ورافقته منذ ميلاده إلى أن جاء خلاصه من عذابه برفعه إلى السماء، مباركاً بالسلام لحين بعثه. وهي سيرة لرسول كريم تستوجب التعمق فيها بما اشتملت عليه من حِكم وعبر، ومن تضحيات وقيم، وفي مقدمتها قيمة وفضيلة التسامح، كفضيلة عظمى، تشترك في حمايتها والتأكيد عليها الأديان كافة، فهي، من وجهة نظرنا، أصل البقاء والاستقرار الإنساني بشرط إتقانه وتحويله إلى سلوك وممارسة ونهج حياة لنحافظ، من خلال القدرة على العفو والغفران، على ديمومة الإنسانية الحقة بعيداً عن الانشغال برمي خطيئة الآخر بحجر!
هذا التأزم المعلّق والمرتبط بالقدرة على التعايش السلمي وتجاوز الاختلافات، فعلاً لا قولاً، وهو، على فكرة، حق من حقوقنا الإنسانية التي يبدو أنها تسقط بالتقادم مع مرور الزمن... هذا التأزم من يتحمل مسؤوليته؟... أنا... أنت... أم مفكرو الأمة وعلماؤها؟ أم الدولة بمؤسساتها وأنظمتها؟ أم المجتمع بقاعدته السوسيولوجية المتشعبة بين مشرق ومغرب، ومحور وأطراف، وعصائب وفِرق، ومذاهب وأديان؟
فإذا عدنا لأسباب ما نستمر في مواجهته من تأزم سياسي يعيد تفريخ التطرف والتشنج والتعصب «الذي طالما تهربنا من انبعاث رواسبه بعوامله المؤثرة في مصيرنا السياسي، وحياتنا السياسية اليومية من انتماءات وانحيازات قبلية وعشائرية وعائلية وطائفية ومذهبية ومحلية وجهوية... ومن حركات واتجاهات (جديدة) لا تختلف عن (أقدم) الحركات السياسية في صدر الإسلام» - (د. م. ج. الأنصاري كتاب «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام»، مكونات الحالة المزمنة) - لوجدنا أنها معضلة مزمنة يقترح الكاتب حلّها بتصحيح الوعي بالذات و«الأنا» المتضخمة بالأوهام وبطولات الماضي السحيق من خلال علم اجتماع سياسي عربي قادر على فهم الخصوصية العربية وتفسيرها وفتح الملف التاريخي لماضي الأمة وحاضرها، بما له وما عليه، وبمكاشفة ومصارحة، لا تَحرّج فيها، وبمعالجات وحلول واقعية تعيد تشكيل المجتمع السياسي الذي يستوعب أطيافه كافة، وتكون جماعاته مسؤولة ومسائلة، قانونياً ودستورياً، عند تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تصل لحد إلغاء الآخر، وتحكم عليه بأحكام قاسية بناء على تفسيراتها الذاتية، وليس بما يحتكم للعقل والمنطق الذي أقرته الأديان كافة تكريماً للإنسان وسمواً بمكانته.
وإنها لمسؤولية، يتفق أغلبنا على ضرورة أن تتحملها المجتمعات كلها، لحل تعقيدات العلاقات الإنسانية وقدرتها على التعايش بمحبة ومودة من جهة، والعمل من جهة أخرى على حل إشكاليات العلاقة مع «الدولة» باحترام أنظمتها والتقيد بها والتفاعل معها لتطويرها، وهذا لن يتم إلا من خلال تحديث وإنضاج مؤسسات المجتمع وتنقية طرائق تفكيرها وأساليب تخاطبها مع جماهيرها التي تستمد منها مقومات نجاحها، بشرط أن تكون قواها – أي المؤسسات - مؤمنة إيماناً كاملاً بدورها وبكيفية مزاولته لتحرير الوعي من ترسباته الموروثة وتأثيراتها على تردي الواقع السياسي المنفصل عن كيان الدولة المستقر والثابت، الذي يجب أن تكون أرضيته هي المساحة المشتركة التي تقرب الجميع، فتكون التعددية والاختلاف مصدر قوة ومنعة... وليس وقوداً للفرقة والكراهية، وكل عام والجميع بخير.
* العنوان مقتبس من كتاب «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام» للدكتور محمد جابر الأنصاري
** عضو مؤسس – دارة الأنصاري للفكر والثقافة، مملكة البحرين