عضوان الأحمري
صحافي سعودي، رئيس خدمات الديجيتال والأونلاين في صحيفة «الشرق الأوسط»
TT

بريق أمل في صناعة النشر

في كتابه "أيام لها تاريخ" الصادر عام 1990م عن دار الشروق المصرية، يبدأ الصحافي ورئيس التحرير المصري الشهير أحمد بهاء الدين (1927 - 1996) بالحديث عن القارئ الجاد وغير الجاد وعلاقة كل منهما بالصحافة. ويقوم بضرب مثال على الفأر وقطعة الجبن؛ تلك التي تغري وتكون مصيدة. يتحدث عن قطعة الجبن ملمحا عن الجماهيرية والركون إلى القارئ غير الجاد لكسب مزيد من الأضواء، وهو ما يمكن وصفه بالصحافة الصفراء.
أن يكتب أحمد بهاء الدين عن القارئ غير الجاد ونزوح كثير من الصحف إلى كسبه واستقطابه، وأن يورد هذا التشبيه قبل عقدين من بدء الجدل حول مستقبل الإعلام الورقي والصراع المستحدث بينه وبين الوسائط الرقمية، هذا يعني أن الصحف الرصينة تعرف على ماذا ترتكز وبماذا تباهي وتفاخر. فمن يكسب القارئ الجاد يكسب الرهان، رهان المحتوى لا الوسيلة.
القارئ الجاد، الذي لم يخف أو يرتبك حين رأى صورة مؤسس مجموعة أمازون جيف بيزوس وهو يتصدر صفحات الصحف العالمية مبتسما لعدسات الكاميرات، وهو يحمل جهاز "كيندل" الصغير مطلع شهر أغسطس (آب) 2013؛ في إشارة الى أن عصر الورق قد انتهى وقد تتحول الصحيفة بأكملها إلى مطويات إليكترونية تخفف أعباء التكاليف اليومية للصحيفة.
لم ينتبه أحد إلى أن السيد بيزوس قام بشراء "البوست" بشكل شخصي، ولم تكن عملية الشراء باسم أمازون أو مرتبطة بها، كما أن أحدا لم يقض وقتا أطول ليقرأ تصريحات بيزوس حول أن قيم "البوست" لن تتغير، لكن ما سيحدث هو تطويرات إليكترونية لتصبح الصحيفة منافسة للصحف الأخرى على الشبكة العنكبوتية. القيمة التي اشترى بها بيزوس الواشنطن بوست وهي 250 مليون دولار ليست القيمة الكلية أو الفعلية، فالالتزامات المالية على الصحيفة والأصول أضعاف هذا المبلغ.
الصراع المستقبلي هو صراع محتوى لا صراع وسائط، وهو ما تجهله أو تتجاهله كثير من وسائل الإعلام التي تدخل غير مجبرة في صراع من سينتصر، الورق أم الألواح الكفية!؟ وكان حريا بقادة هذا الصراع أن يتساءلوا : ماذا لو انتصر الورق مدمجا مع الألواح الكفية؟ وهذا ما تنتهجه كبريات الصحف العالمية، فالمادة التي تنشر في الصحيفة، وتملك المطبوعة حقوق نشرها، هي ذاتها التي تصلك على جهازك المحمول أو هاتفك الذكي أو اللوح الكفي الذي تحمله لتتصفح محتواه وأنت في مكتبك أو المقهى أو حتى في مترو الأنفاق.
في شهر مايو (آيار) 2013، أعلنت "نيويورك تايمز" بدأ إطلاق سلسلة من الوثائقيات القصيرة، لا تتجاوز مدتها 15 دقيقة، هذه الوثائقيات تم تصويرها لتبث على موقع الصحيفة فقط. ما الذي يدفع صحيفة عريقة مثل نيويورك تايمز أن تتجه لمثل هذا النوع من الإنتاج؟ وما الذي يدفعها في الوقت ذاته لحجب جزء كبير من محتواها وجعله مدفوع القيمة؟ قد تكون الإجابة أنها محاولات شجاعة لتجربة ما لم يفعله الآخرون، وخوض غمار تحدٍ مع مستقبل مجهول لمصير (الوسيلة) لا المحتوى، فمن يستطيع لفت أنظار القنوات التلفزيونية وقنوات التواصل الاجتماعي ومشاهير الإعلام كل صباح ليقرأوا محتواه ويتناقلون أخباره ومقالاته، له كامل الحق في أن يحاول الحبو في عالم ليس له، فإن استطاع الوقوف على قدميه فهذا انتصار، وإن لم يستطع، فلا ضرر ولا ضرار، فلديه منتج أقوى وأكثر رصانة، لكنه التنوع في المحتوى، وهو ما سيدفع القارئ إلى التجول والمكوث في الموقع أكثر من المدة المفترض أن يمكثها؛ تارة يشاهد فيلما وثائقيا، وتارة يقرأ مدونة، ثم مادة عن أفضل المطاعم في مدينة نيويورك، لينتهي به المطاف في مشاركة كثير مما شاهده واطلع عليه مع أصدقاء له، أو مع العالم الافتراضي الكبير على شبكات التواصل الاجتماعي.
كل ما سبق يحتار الناشر في تصنيف المهتم به، هل هو قارئ جاد أم غير ذلك، ومثلما قال أحمد بهاء الدين عن القارئ الغير الجاد، إنه كقطعة جبن في مصيدة، مغرية لكنها قاتلة.