خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

العاطفة الاقتصادية

يجمع الاقتصاد بين الرقم وبين الإنسان. المداخيل والنفقات فيه تفصح عن قيمها الرقمية بوضوح، ويبقى السؤال: كم تساوي التنافسية والحافز وحس المسؤولية رقمياً؟ الجاذبية أيضاً عرفها الإنسان منذ القدم لكننا لم نحدد قيمتها الرقمية إلا مع نيوتن.
القيمة الرقمية في الفيزياء - بمجرد اقتراحها - يمكن اختبارها معملياً ومادياً. الطيارة لن تطير، والصاروخ لن يخرج عن المدار، إلا باحترام قيم الفيزياء الرقمية. أما الاقتصاد فحظه أقل. كان له أيضاً علماء أفاضل، نجحوا في سبر القيم الخافية في السلوك الاقتصادي، وتحويلها إلى قيم رقمية. المجتمعات التي احترمتها عاشت في أكثر الحقب رفاهية في التاريخ الذي نعرفه. لكن مجتمعات أخرى تجاهلتها، واستعاضت عن كفاءة الاقتصاد بالخطاب العاطفي.
ذلك أن الاقتصاد كغيره من التوجهات الاجتماعية نتاج ثقافة، وليس مجرد جدل نظري أكاديمي بين أفكار. هذا يصعّب علينا المهمة، وقد ظنناها سهلة بعد انتهاء المعركة «الواضحة» بين الاشتراكية والرأسمالية. لقد خلع الاقتصاد السيئ رداء الاشتراكية بعد فشلها ودس نفسه متنكراً في صور جديدة. فصار علينا أن نبحث عن سلوك مميز متكرر يكشفه.
لو نظرنا إلى التجارب الاقتصادية الناجحة، سواء كانت في دول ديمقراطية ككوريا الجنوبية، أو في دول مركزية الإدارة كالصين وسنغافورة، سنجد أن سمة واحدة ميّزت التوجه نحو اقتصاد أفضل. هذه السمة هي «توسع الطبقة الوسطى». أعني الطبقة الوسطى الحقيقية، صغار المستثمرين وأصحاب المهن الحرة، الذين يكسبون وتتسع أعمالهم بسبب مهاراتهم ومخاطرتهم الاقتصادية، لا الطبقة البلاستيكية من الموظفين التي سارعت الدول الاشتراكية إلى صناعتها. في المقابل، انكماش هذه الطبقة من المستثمرين، وتآكلها، وتراجع المهارات والابتكار، والتردد عن المخاطرة الاقتصادية، مقياس معياري لفشل السياسة الاقتصادية.
ليس هذا مجرد مقياس استنسابي استلطفته فاخترته. تمدد الطبقة الوسطى مقابل انكماشها يكشف لنا القيم التي تحكم التفكير الاقتصادي، والمبادئ التي تحركه. هو مقياس عابر للنيات الطيبة أو السيئة، يعكس كفاءة القرار، وكفاءة سيستم تفعيله، لا الأماني والأحلام والأغراض التي دفعت لاتخاذه، أو الشعارات التي رفعت فوق رأسه. يمكننا، باستعارة المصطلح الفيزيائي، القول إن مساحة الطبقة الوسطى «محصلة قوى». وهي رسم بياني، رقمي، للقيم الاقتصادية غير المرئية.
هذا مهم بالذات في مجتمعاتنا، إذ تميل الكتابة الاقتصادية باللغة العربية إلى التركيز على الأخلاقية الظاهرية الادعائية، تميل إلى مدح «العطايا» للطبقات الفقيرة، بدلاً من حساب الأسئلة الأساسية: ما مصادر تمويلك لسياسة اقتصادية معينة؟ أو ما الآثار المتوقعة على الاقتصاد منها؟
القرار الاقتصادي الجيد اقتصادياً هو الوحيد الذي سيعمّ أثره الخيّر على الجميع. وبالتالي فهو الوحيد الأخلاقي. وهو الوحيد الذي يفتح المجال لمزيد من الفرص، فيفتح المجال لتكافؤ أكثر في الفرص. لو نظرت إلى أي مجتمع مرت به الاشتراكية ستجد أن الواسطة والمحسوبية منتشرتان، والسبب أن السياسة الاقتصادية السيئة قلصت الفرص، فصارت «المساواة» مستحيلة حسابياً، والواسطة هي الطريق الوحيد إلى الكراسي الموسيقية القليلة. الشعار لا يحقق نفسه. السيستم هو الفيصل.
الكتابة العاطفية في الاقتصاد مدخل إلى تخريبه، والترويج للقرار الاقتصادي الخاطئ. لكنها لا تعني أن القرار الخاطئ منشؤه العاطفة الجياشة. في عالم الطب لا يلجأ الطبيب الجيد إلى العاطفة في التشخيص أو التعامل مع الحالة. ليس ذلك لأنه أقل عاطفة نحو المريض، بل لأن وظيفة الطب إفادة المريض لا إرضاؤه اللحظي. يختبئ خلف القرار العاطفي الطبيب المفتقر إلى أدوات مهنته.
سبب القرار الاقتصادي الخاطئ موجود في الثقافة. بالتحديد في تجاوز فكرة المسؤولية، بالمعنى الحسابي للمسؤولية. غياب العلاقة بين قدرتي على تحقيق الكسب، وحدود نفقاتي. وغياب العلاقة بين قراراتي الحياتية وبين تحمل تكاليفها.
أنا الآن شاب في العشرينات، تزوجت بفتاة في مثل عمري. ماذا فعلت لكي أستحق أن أحصل على شاي وزيت وخبز وأرز؟ ماذا فعلت لأستحق المزيد من هذا حين أنجبت طفلاً أو اثنين أو ثلاثة فحصلت على تعليم مجاني لهم؟ من المقولات الشائعة في مجتمعاتنا أن «التعليم حق». والحقيقة أن الحق هو عدم الحرمان من التعليم. ما دُمتَ تدفع تكلفته أو تُظهر نبوغاً نستثمر فيه. أنجب مَن تشاء، بشرط توفير غذائه وكسائه وتعليمه وطبابته. هذا هو الضمان الحسابي الوحيد لاستمرار جودة الحياة.
أما أخلاقياً ففكّر في المسألة كالتالي: لو كنتُ حِرفياً، كهربائياً مثلاً، وأبنائي يعملون في ورشة الكهرباء معي. لماذا ترى أن حقك عليّ أن أدفع لتعليمك الجامعي؟ إن أردت أن تتعلم جامعياً فبها ونعمت. تعلم وادفع النفقات. لن أشاركك في كسبك من شهادتك. كما لن أستطيع الاعتراض لو قررت أن تعمل في مجال آخر غير الذي درسته. أو لو قررت البقاء في البيت بعد أن تكفل المجتمع بتعليمك. أو لو قررت دراسة مجال لا يحتاج إليه سوق العمل، فكنت عبئاً إضافياً بالبطالة صريحةً أو مقنَّعةً.
هذا الشعور الاستحقاقي المستشري في مجتمعنا جعلنا نعتقد أن إنجاب أطفال مهمة يجب أن نكافأ عليها. وأن الطفل بمجرد ولادته مستحق لكل شيء. بينما الحقيقة الاقتصادية تقول إن البشر منتجنا الوحيد الزائد على الحاجة. فلماذا نحفّز المزيد؟
جعلنا شعور الاستحقاق نهمل تطوير مهاراتنا لكي نستحق وظيفة ما. لقد وُلدنا مستحقين يا أخي بمحض وجودنا، ولا داعي لمزيد من الجهد.
يستقيم حال اقتصادنا حين نعود إلى المعادلة البسيطة. افعل ما تشاء، ولكن تحمل تكلفته. إن غابت المسؤولية عن الأفعال فإن تكلفتها تستنزف الفائض الذي كان مفترضاً أن يعاد تدويره واستثماره. هذا يُدخلنا في معادلة تناقصية. أثرها الظاهر انكماش الطبقة الوسطى في المجتمع. املأ الدنيا كلاماً عاطفياً كما تريد. الاقتصاد لن يستمع. كما لا يستمع الطب لبكاء المرضى، ولا لنية الطبيب، بل لمدى كفاءة العلاج.