داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

ماذا بعد هيمنة «طالبان»؟

لم تستطع حكومة الرئيس الهارب أشرف غني الاعتماد في مقاومتها لـ«طالبان» على المعدات الثقيلة التي تملكها والأسلحة الحديثة التي زودتها بها الولايات المتحدة وشرعيتها الدولية، حتى أنها فشلت في استدعاء أمراء الحرب السابقين للمساعدة؛ فانهارت «الشرعية» ودخلت «طالبان».
حين قامت الحرب الأفغانية الداخلية وانقسام الدولة إلى مقاطعات وولايات يحارب بعضها البعض الآخر، كتب زميلنا الأستاذ الياس حرفوش في جريدة «الحياة» اللبنانية مقالاً فريداً تحت عنوان «من أفغانستان إلى أفغانستانات»! وهو عنوان غير مسبوق تنبأ فيه بانقسام أفغانستان إلى دول وملل وطوائف من بينها حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة»، وسرعان ما دخلت الولايات المتحدة الأميركية على الخط حين احتلت أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في نيويورك وانهيار برجي مركز التجارة العالمي.
وقبل أميركا غطست دول أخرى في المستنقع الأفغاني مثل روسيا والهند وإيران وباكستان والصين ودول حلف الأطلسي. وخلال فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب تقرر انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، وهو ما سُمي في حينه «الهروب الكبير» من المصيدة التي لا تتوقف.
ومثلما فعلت الولايات المتحدة في فيتنام الشمالية عام 1975. بعد أن ذاقت الأمرّين طوال 18 عاماً من المقاومة الوطنية الفيتنامية وتكبدت 58 ألف قتيل وربع مليون جريح وفقدان 1500 عسكري وخسارة 168 مليار دولار، ها هي تهرب من أفغانستان، وأرسلت ما بين 3 آلاف إلى 5 آلاف جندي أميركي إلى كابل لإجلاء موظفي السفارة الأميركية وبعض المستخدمين المحليين. لم تعد هزيمة أميركا في فيتنام هي الوحيدة في التاريخ الأميركي. الآن أمامنا تراجعها في أفغانستان وقبلها في العراق. لقد صدّق السياسيون الأميركيون ما تقوله أفلام هوليوود عن الدولة الأميركية العظمى التي لا تُقهر في الحروب الأرضية أو الكونية، فإذا بها غير ذلك.
لقد أدركت واشنطن بعد عشرين عاماً وآلاف القتلى أن قواتها لا يمكن أن تظل في هذه البلاد الصحراوية الجبلية إلى الأبد، ولا بد من إطفاء الضوء وغلق الباب والعودة إلى البلاد. والضحايا كما في فيتنام، عملاء الولايات المتحدة والمتعاونون معها من الجواسيس والمخبرين والمستخدمين الذين تركتهم يواجهون قدرهم مع «طالبان» التي علقت بعضهم فعلاً على مشانق أسلاك الكهرباء مستلهمة أسلوب إيران الملالي.
لكن سيطرة «طالبان» السريعة ليست سهلة، فالشعب الأفغاني اكتوى بنيرانها خلال حكمها السابق قبل الاحتلال الأميركي. وقد يتحول التسارع في احتلال المدن إلى سقوط «طالبان» في رمال متحركة داخل أفغانستان ومع بعض جيرانها الذين يستثقلون دم هذا التنظيم المتطرف وعودة الحرب الأهلية بعد سنوات من الاستقرار النسبي الذي سيتفجر مع رحيل آخر أميركي في آخر طائرة.
المرحلة المقبلة تحتاج إلى مترجمين فُرس وهنود وباكستانيين وروس وصينيين بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية. أما العرب فغائبون عن الساحة الأفغانية، فهم مشغولون بالتغول الإيراني الميليشياوي من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن، أضف إلى هذه الدول ليبيا وتونس والسودان المشغولة بإعادة ترميم وتنظيف أنقاض الأنظمة السابقة.
الأخطر في اللعبة الأفغانية هو احتمال تحولها إلى حرب طائفية باعتبار أن «طالبان» سنية أصولية، وهناك الطائفة الشيعية التي تستعد للأسوأ وليس لها من دعم إلا إيران. وفي الواقع لا تشكل الطائفة الشيعية «الهزارة» ما يشكل خطراً على «طالبان» أو «داعش» أو «القاعدة»، وهي التسميات السنية المعروفة التي صمتت أو قلّ نشاطها خلال الاحتلال الأميركي لأفغانستان. وينشط المسلحون من طائفة «الهزارة» في المرتفعات المغطاة بالثلوج في ولاية «باميان» وسط البلاد. وأبرز قادة هذه الميليشيا عبد الغني علي بور الذي حقق مكاسب هشة، كما قالت وسائل إعلامية، في خطف مسلحين من «طالبان» لمبادلتهم برهائن من «الهزارة».
هذا المقال ليس عن أفغانستان فقط، ولكن «الخروج الأميركي الكبير» الذي بدأ في ذلك البلد البعيد، يتماشى مع «الخروج الأميركي الصغير» في العراق. لقد كان واضحاً منذ بداية ولاية الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن أنه يسعى لتبريد محركات الحرب، مثلما مهد لذلك الرئيس السابق دونالد ترمب. وليس سراً أن إيران تحسب الساعات والدقائق قبل الأيام والأشهر لإرغام القوات الأميركية على الرحيل من العراق، بينما الجانب الأميركي يقدم رجلاً ويؤخر أخرى. فهزيمتان في وقت واحد في أفغانستان والعراق لن يمحوهما الزمن من تاريخ الولايات المتحدة. لم تنته «المهمة» كما زعم الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عن حرب 2003. على العكس من ذلك؛ كانت حرباً باهظة التكاليف من الناحية الاستراتيجية وتركت العراق غير قادر على الدفاع عن نفسه واستقراره، بل إنه لا يستطيع لجم الميليشيات الموالية لإيران، وهي عراقية الأفراد والأسلحة والتمويل والمعسكرات، كما رأينا في حوادث اعتقالات واغتيالات واحتكاكات سابقة وصواريخ تم إطلاقها على السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء وعلى القوات الأميركية في معسكراتها التي هي أصلاً معسكرات عراقية منذ سنوات النظام السابق.
من الصائب هنا أن نستعير ما قاله رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، وهو ما ينطبق على الحربين الأميركيتين ضد العراق وأفغانستان: «من النادر في التاريخ البشري أن حَدَثَ هذا الكم (الهائل) من التضحيات الغالية والنفيسة لتحقيق ذلك القدر (الهزيل) من النتائج».
وأخيراً، من يستطيع أن ينفي أن أميركا كسرت مقامها كدولة عظمى تدعو للسلام، فإذا بها تندفع إلى استخدام القوة كأداة في السياسة الدولية ووسيلة من وسائل العلاقات العامة؟
ما الذي فعلته الولايات المتحدة في أفغانستان طوال عقدين؟ أين ذهبت مليارات الدولارات التي أنفقتها لتدريب القوات الحكومية الأفغانية؟ ها هي «طالبان» تسعى إلى استعادة السلطة و«طلبنة» معظم الأراضي الأفغانية، وبسهولة أذهلت القادة العسكريين الأميركيين. ومن السخرية أن يهدد الاتحاد الأوروبي «طالبان» بعزلها دولياً، وهي المعزولة دولياً طوال نصف قرن، فما هو الجديد؟!
لكن ما ذنب شعبي العراق وأفغانستان في كل ما جرى؟