أسهلُ الكلام هو اتهامُ الأفغان بأنهم دمى تحركهم أيادٍ أجنبية، وأن صراعاتهم كلها حروبٌ بالوكالة. ومثله في السهولة اتهامُ السوريين والليبيين. إني لا أنفي وجود أياد أجنبية في أي مكان. ولا أنفي أنها تؤثر، ولولا أنها مؤثرة لما التفت إليها أحد. لعل بعضنا يعرف أن القضاء الأميركي ما زال يحقق في «أياد روسية» حاولت التأثير في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فإذا وصل الأمر إلى واشنطن؛ فإن كابل أيسر مؤونة.
رغم هذا؛ فإن إطلاق القول على هذا النحو مدعاةٌ للسخرية. ولهذا يميز طلبة العلوم السياسية، سيما الذين تدربوا على دراسة الحقل المشترك بين العلاقات الدولية وإدارة الأزمات، بين قيام الأجنبي بـ«خلق أزمة» وقيام الأجنبي بـ«استثمار أزمة؛ نشطة أو خاملة».
أعرف حالات قليلة جداً شهدت نجاح الأيادي الأجنبية في خلق أزمات أدت إلى صراع أهلي. لكن معظم حالات الصراع الأهلي تطور عن تأزمات داخلية، فشل أطرافُها في معالجتها على نحو سليم، فنشأ فراغ أمني أو فراغ سياسي، مهد الطريق للتدخل الأجنبي.
ما الداعي لهذا الحديث اليوم؟
أعلم أن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، والتوسع المفاجئ لحركة «طالبان»، سوف يجتذب اهتمام القراء. ولا بد من أنه سيحرك كثيراً من النقاشات. فأردت استثمار المناسبة للكشف عمّا أظنه عيباً جوهرياً في الثقافة السياسية السائدة بين العرب المعاصرين وبعض جيرانهم المسلمين. هذا العيب هو ببساطة «احتقار الذات»، الذي يتغطى بعباءة «تفخيم الذات» أو «تبرئة الذات».
حين تقول إن كل الأطراف المتصارعة تقاتل بالوكالة عن قوى أجنبية، فأنت تشير ضمناً إلى أن الأطراف المحلية عاجزة عن اتخاذ القرار في أمور بلدها، وحتى في تحديد دورها الخاص ومستقبلها ضمن هذا البلد. إذا قلت هذا الكلام، فسوف تجد من يلقي الكرة في ملعبك سائلاً: وهل أنت واحد من هؤلاء العاجزين... وهل قبيلتك أو أهل ديانتك أو قريتك ممن تحركهم الأيادي الخارجية، كما يفعلون في مسرح العرائس؟
يعلم الإنسان بأنه سيواجه هذا السؤال، ولهذا فهو يستبق الأمور بتفخيم الذات وتنزيهها، من خلال رمي المشكلة على الغير (الذي يكون في غالب الأحيان غائباً، أو غير قادر على المجادلة والرد). كمثال على هذا: يقول الليبيون إنه لم يكن لديهم أي مشكلة قبل أن يأتي أناس من الخارج. الشيءُ نفسُه قاله بعض العراقيين والأفغان... وربما غيرهم. بعبارة أخرى؛ فإن المسألة تتدرج على مرحلتين؛ الأولى: الادعاء أن أهل الداخل أدواتٌ تحركها قوى أجنبية (المضمون: أن شعبنا عاجز عن القرار والفعل). الثانية: التحليل: لأن أهل الداخل عاجزون؛ فهم لن يرتكبوا خطأ (المضمون: ما دمت لم تتسبب في المشكلة فلا لوم عليك، حتى لو انخرطت فيها لاحقاً).
هذا كلام ينطوي على استهانة بالذات وبالمحيط الاجتماعي، وإن تلبّس عباءة البراءة وتنزيه الذات؛ لأنه حتى لو افترضنا جدلاً أنه صحيح، فسوف يعود السؤال: هل كنتم مجرد قطيع يسوقكم راعٍ هبط عليكم فجأة، فأطعتموه من دون أن تعرفوه... أما كان الآلاف منكم قادرين على التوقف لحظة والتفكير فيما يجري واكتشاف «المؤامرة» المدّعاة؟
الواقع أن معظم النزاعات الأهلية التي نعرفها؛ في محيطنا العربي والإسلامي وصولاً إلى بقية قارات العالم، تفجرت لوجود علل وأمراض في البنية الاجتماعية أو السياسية. إن وجود هذه العلل في الأصل مؤشر على تقصير أهل البلاد، وكانت تتوجب عليهم المبادرة في علاجها يوم اكتشفت، قبل أن يمسي العلاج مستحيلاً ويصبح التفكك خياراً وحيداً، كما جرى في السودان وقبله في يوغوسلافيا السابقة.
يتعلق الموضوع في الجوهر بمسألة «الإجماع الوطني». ولهذا حديثٌ آخر نعود إليه قريباً إن شاء الله.
8:2 دقيقه
TT
البلاد بوصفها «مسرح العرائس»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة