جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

هستيريا الكُرة تحجب ذكرى الإرهاب

الذكرى السادسة عشرة لأكبر عملية إرهابية شهدتها بريطانيا مرّت، يوم الأربعاء الماضي، تحت غيم صيف بريطاني ماطر، في هدوء مريب، من دون أن تثير ما يتوجب من اهتمام لدى وسائل الإعلام، أو لدى الجهات الحكومية المعنية، أو لدى المواطنين. ويبدو، في رأيي، أن السبب في ذلك يعود إلى سيطرة موجة غير عادية من هستيريا كُروية على العقول والقلوب، تجمعت في أوركسترا ضخم، تقوده وسائل الإعلام على اختلافها. فالذكرى، لسوء الحظ، تزامن مرورها مع موعد مباراة الفريق الوطني الإنجليزي في التصفيات ما قبل النهائية في البطولة الأوروبية لعام 2020؛ إذ لأول مرّة، بعد قرابة نصف قرن أو يزيد، يجد جمهور الكرة الإنجليزي فريقهم الوطني قد اقترب من تحقيق حلم الفوز ببطولة كروية. ذلك الحلم المراوغ، وما أثاره من ضجيج إعلامي، لم يترك فراغاً أو وقتاً، ولو لزوايا صغيرة في صفحات داخلية لصحف قومية، أو إشارة عابرة في نشرات المحطات التلفزيونية البريطانية، تذكيراً بالضحايا الذين سقطوا قتلى، صباح يوم 7-7-2005 في عربات قطارات الأنفاق وحافلة عامة في لندن، نتيجة عمل إرهابي جبان. 56 شخصاً، ينتمون إلى ثماني عشرة جنسية، قُتلوا ذلك اليوم، ومن ضمنهم الإرهابيون الأربعة. وأكثر من سبعمائة آخرين أُصيبوا بجروح، وبعضهم بُترت أطرافهم، وهم في طريقهم صباحاً لأداء أعمالهم وقضاء شؤونهم. التفجيرات الإرهابية تلك تعدّ أول عمل انتحاري إرهابي إسلاموي، ارتُكبَ على التراب البريطاني. بعده بأسبوعين، شهدتْ بريطانيا سلسلة من عمليات انتحارية إرهابية، ولحُسن الحظ، فشلت جميعها في تحقيق أهدافها، ولم تتسبب في قتل أو جرح أحد، أو إحداث أضرار.
أتذكر ذلك اليوم أنني كنتُ في زيارة لبيت صديق، في طرابلس الغرب، حينما، فجأة، بدأت المحطات التلفزيونية، تلغي برامجها لتنقل على الهواء مباشرةً مشاهد حيّة من مواقع الانفجارات في مدينة لندن. أربع عمليات انتحارية، قام بها أربعة شباب مسلمو الديانة، أكبرهم في سن الثلاثين وأصغرهم في سن التاسعة عشرة. ثلاثة منهم، قدموا من مدينة ليدز محمّلين بأدوات القتل، في سيارة مؤجرة، في ساعة مبكرة صباحاً، وتوقفوا في لوتون، حيث التحق بهم رابعهم، ومنها استقلوا قطاراً إلى محطة «كينغز كروس - King›s Cross» وسط لندن، واحدة من كبرى المحطات في المدينة وأشدّها ازدحاماً، وهناك توزعوا بين مختلف الخطوط. اختيار محطة «كينغز كروس» تحديداً، وفي ساعة الذروة الصباحية، يؤكد أن الفاعلين كانوا ينوون إحداث مجزرة بشرية. وأعتقد أننا لسنا هنا في حاجة إلى إعادة سرد تفاصيل رواية مأساة معروفة وباعثة على الحزن.
التحقيقات الأولية في الحادثة كشفت أن مرتكبي العمليات الانتحارية الأربعة كانوا خارج دوائر موجات الرصد، في رادارات الأجهزة الأمنية المعنية بمكافحة الإرهاب. ولذلك السبب اعتُقدَ، في البداية، أن توالي الانفجارات، في وقت متقارب، ربما يكون ناجماً عن خلل كهربائي في المحطة الرئيسية. لكن سرعان ما اتضح خطأ التحليل ذاك، والوصول إلى استنتاج بأنه عمل إرهابي. وفيما بعد، كشفت التحقيقات أن اثنين من الإرهابيين قاما في عامي 2003 و2004 بزيارات لباكستان، بقصد التعرف على متطرفين من تنظيم «القاعدة»، والتواصل معهم. وساد اعتقاد لدى الأجهزة الأمنية بأنهما، خلال تلك الزيارات، وتحت إشراف محترفين، تعلما صناعة المتفجرات، وعادا إلى بريطانيا بهدف الإعداد للعمليات الانتحارية. العلاقة بين مرتكبي التفجيرات وتنظيم «القاعدة» لم تتضح للأجهزة الأمنية إلا بعد أسابيع، قرابة منتصف شهر سبتمبر (أيلول)، حين قامت إحدى القنوات التلفزيونية ببث تسجيل مصوَّر لشخص قيل إنه قائد العمليات، اعترف فيه بانضمامه لتنظيم «القاعدة»، وأعلن مسؤوليته عن ارتكاب الجريمة الإرهابية. التقارير الإعلامية، آنذاك، أشارت إلى عملية تلاعب واضحة في الشريط، لتأكيد الصلة بـ«القاعدة». وعقب ذلك بثّت القناة نفسها شريطاً مصوراً آخر ظهر فيه أيمن الظواهري، يعلن فيه مسؤولية تنظيم «القاعدة» عن العمليات، إلا أن الجهات الأمنية البريطانية لم تصدق ذلك الادعاء، على اعتبار أنه عمل دعائي للتنظيم، وأن مرتكبي العمليات خططوا لها ونفّذوها من دون علم التنظيم أو التنسيق مع قياداته. ورفض رئيس الوزراء، وقتذاك، توني بلير، مطالب أحزاب المعارضة بإجراء تحقيق مستقل، متحججاً بضرورة تأكيد الحكومة دعمها للأجهزة الأمنية، ولجهاز مكافحة الإرهاب خصوصاً. ولدى تولّي السيد ديفيد كاميرون رئاسة الحكومة عام 2010، أصدر قراراً بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة في الحادثة، ولم تظهر نتائج ذلك التحقيق إلا في عام 2011.
من المفيد الإشارة إلى أن تداعيات تلك العمليات الانتحارية المريعة لم تقتصر على بريطانيا بل تجاوزتها إلى غيرها من دول أوروبا الغربية. وكانت البداية لعمليات أمنية كبيرة، في عواصم كثير من الدول، موجّهة ضد الإرهابيين الإسلامويين. لكنها في ذات الوقت، أدخلت الحكومة البريطانية في حالة غير عادية من الارتباك، تسببت في اتخاذها كثيراً من القرارات المتسرعة، التي عُدّت من قِبل المختصين في القانون ونشطاء حقوق الإنسان، مخالفة صريحة للقوانين.