حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«17 تشرين» كحالة تأسيسية للبنان آخر!

«مررنا أمامهم، كان باب مكتب قائد المنطقة العسكرية مفتوحاً، دخلوا وسلموا بالأيدي وتعانقوا... وكان المجتمعون فيه يضحكون عالياً، يتبادلون كلاماً محبباً أو ربما النكات». هكذا رسم الروائي جبور الدويهي في «مطر حزيران»، صورة إنهاء الاقتتال الذي مزّق زغرتا ومنطقتها عامي 1957 و1958، وقد سبق لقاء مصالحة رؤساء العائلات و«التيارات»، توزيع تعويضات مالية على أسر الضحايا، لتثبت على الفور المحاصصة بين الزعماء، مع إطار تعاون مفتوح فيما بينهم لتتمثل الأطراف الرئيسية في أول مجلس نيابي انتخب بعد «ثورة» عام 1958، فيما حدود الضغائن والكراهية رسمت بالدم بين الأهالي!
على مدى الـ78 عاماً هي عمر الاستقلال، شهد لبنان تفجراً دورياً للصراعات بين الأطراف السياسية، التي أمسكت مقاليد حكم لبنان. عام 1952 «ثورة بيضاء» أسقطت الرئيس بشارة الخوري المتهم عهده بالفساد. أما اضطرابات عام 1958 التي سميت «ثورة» أشعلها تزييف الانتخابات، فقد فرضت تحولاً سياسياً منسجماً مع صعود الموجة الناصرية، فيما لاحت مقدمات الحرب الأهلية في عام 1969 إثر اتفاق القاهرة، وكانت أحداث 1973 بروفة مصغرة عنها، لتتفجر رسمياً في 13 أبريل (نيسان) 1975، واستمرت حتى عام 1990 فأخمدها اتفاق الطائف، لتُستأنف «الحروب الصغيرة» في زمن «السلم الأهلي»!
طحنت هذه الاضطرابات والحروب اللبنانيين وكبّدتهم الخسائر الهائلة في الأرواح والممتلكات، وأدت إلى موجات تسونامي هجرة. كان الناس وقودها ولم تعالج يوماً الأحقاد التي تركتها، ليس لأنها لم تكن أولوية، بل لأن الاستثمار فيها استمر، فتنامت التوترات التي ارتبطت بالتحريض الطائفي، لتنكشف عن عمليات اقتلاع وتهجير، أدت إلى نزوح لم يتوقف، ما أحدث متغيرات في النسيج اللبناني لم تسلم منها أي منطقة! ودوماً كان احتدام الصراع الفوقي بين أطراف الطبقة السياسية، ودور الأطراف الخارجية المؤثرة ما يشعل فتيل التفجير، ودوماً كانت الحلول فيما بينهم وفق القاعدة الذهبية التي أرساها رئيس الوزراء الراحل صائب سلام «لا غالب ولا مغلوب». ودوماً كانت تتم المصالحات الفوقية كما قدمتها رواية «مطر حزيران».
في عام 1952 فُرضت استقالة بشارة الخوري، لكن نجله خليل انتخب نائباً على الفور، ورغم أن «ثورة 1958 استهدفت الرئيس شمعون، فقد عاد إلى المجلس النيابي في أول انتخابات بعد تلك الأحداث. وإذا كانت مصالح النظام السوري فرضت تعديلات في التركيبة السياسية وتقدم مواقع زعماء الميليشيات، فقد استمرت رموز أساسية تتناسل فحل الابن مكان الأب والحفيد مكان الجد فالأصهار والمساعدون! حتى أن «انتفاضة الاستقلال» التي هزّت النظامين الأمنيين في لبنان وسوريا، تم الانقضاض عليها عبر «الاتفاق الرباعي» فخرج صنّاع اليوم التاريخي «14 آذار» من المولد بلا حمص! ومن حرب يوليو (تموز) التي تحولت منصة لقضم «حزب الله» للسلطة، إلى اعتداءات 7 مايو (أيار) عام 2008 والتسوية الرئاسية المشينة، كانت الحصيلة تعديلات فوق دستورية ارتبطت بميزان قوى ظرفي متأتٍ من فائض قوة الدويلة الممسكة مفاصل قرار البلد. لم يشطب أي طرف فبات نظام المحاصصة يتسع لمصالح كل الأطراف ويحمي ارتكاباتهم!
تداعيات الشغور في الرئاسة 30 شهراً لم تبددها تسوية عام 2016، فاستمر الفراغ لا يلغيه ترؤس عون اجتماعات مجلس الوزراء، فقد سادت حالة غير مسبوقة من تحكم المافيا الميليشياوية والسياسية والمالية، التي وسعت من دائرة السطو على المتبقي من موارد عامة إلى المال الخاص كالودائع المصرفية. كان جبران باسيل يعلن في «دافوس» عن بدعة إدارة البلد من دون موازنة، بالمقابل نقلت «الفيغارو» عن رياض سلامة، أن لبنان من بداية عام 2017 كان يستورد السلع المدعومة لبلدين، لبنان وسوريا! وأن قيمة التهريب 5 مليارات دولار سنوياً، وهذا «التهريب» مستمر، ويصب في تمويل الدويلة والميليشيات السورية!
تلك المقدمات فجّرت «17 تشرين» عام 2019 فبدت كحالة دفاعية عن حقوق الناس وكرامتها. من البداية سجلت حالة نهوضٍ شعبي شملت شرائح واسعة من المجتمع وتفاعلت ساحات الاحتجاج التي جمعت متشابهين، كان من المتعذر التفكير سابقاً بإمكانية لقائهم. وكلما تظهرت أكثر معالم النكبة وشمولها كان يتسع التعاطف ويتراجع عدد المتفرجين وتتنوع المشاركة. وزال الالتباس وتحدد الخصم بدقة: «كلن يعني كلن»، أي منظومة الحكم كاملة وهي العصارة الصافية لتحالف جمع بين زعماء الحرب وميليشيات المال.
«17 تشرين» أحدثت رهبة كان من نتائجها سقوط حكومة الحريري رغم الخط الأحمر الذي وضعه الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله! لكن، مبكراً تبين استحالة تحقيق أي مطلب من دون تغيير سياسي، فانطلقت حملات تخوين الثورة التي اعتبرتها طهران تهديداً لنفوذها، وتعرضت الساحات لاعتداءات مبرمجة من جانب ميليشيا «حزب الله»، واتحدت الطبقة السياسية بوجه نقيضها، الذي رفع مطلب حكومة مستقلة، عن التحالف السلطوي المسؤول عن الفساد والانهيار والارتهان، لتقود مرحلة انتقالية تتيح إمكانية إعادة تكوين السلطة!
مطلب حكومة مستقلة احتضن داخلياً ولقي تفهماً خارجياً، لكنه بدا يعادل انقلاباً كاملاً، وخروجاً من مقولة «لا غالب ولا مغلوب» لمصلحة غلبة الأكثرية. لم تكن قوى الثورة قادرة على فرض مطلبها، سواءً لغياب البرنامج الموحد أو غياب الأدوات التي يمكن أن تبلور ميزان قوى شعبياً يوازن مع مشروع هيمنة «حزب الله» المؤيد من الطبقة السياسية التي منذ تسوية 2016 لم تعارضه وتغاضت عن الهيمنة الإيرانية! ولا شك أن التشتت نتيجة التفتت النقابي وغياب العمل السياسي وتفشي الوباء، حال حتى دون الضغط لدفع مساعدة تقررت للأسر المحتاجة، ولم يظهر أي دور في إمكانية قيادة حملة لبلورة المعايير لتحديد الأسر الأكثر حاجة إلى الحصول على مساعدة البنك الدولي لدرء المجاعة مؤقتاً فتراجعت الثقة وحلّ الانكفاء!
منذ أكثر من عام، وبعد جريمة تفجير المرفأ وبيروت، يطرح السؤال عن سبب انكفاء الشارع، ولم يتناول النقاش أسباب تراجع الثقة. في الوقت الثمين الذي لا يعوض، هناك محاولات لمنصات ومجموعات دعت إلى قيام جبهات، بعضهم يعتبرون أنفسهم صنّاع «17 تشرين»، ويظن سواهم أن مشهدية من 100 شخص ستبلور البديل، فيكثر الحديث عن مشاريع الإصلاح والإنقاذ، مع تجاهل متفاوت لارتباط الداخلي بالإقليمي وماذا سيكون عليه قرار ورد القوة المهيمنة التي تختطف الدولة بالسلاح!
قوة «17 تشرين» أنها بسلميتها وشمولها وطنياً أسست للبنان آخر؛ لذا لا تُختصر بوجوه على غرار الأحزاب الشمولية أو بالتركيبات الفوقية. الجبهات السياسية كي تعبر عن مصالح حقيقية للمواطنين، تفترض قيام تنظيمات سياسية قاعدية، تشكل رافعة لعمل جبهوي يبلور ميزان القوى الشعبي الممر الإجباري إلى التغيير واستعادة الدولة والدستور، فتستعاد السيادة ويكون متاحاً معالجة عواقب نظام المحاصصة وحماته!