قلّما جمع رئيس أميركي في شخصه إرثا ثقافيا غنيا بـ«فسيفسائه» مثل الرئيس باراك أوباما. غير أن مقاربة هذا الرئيس للأزمات الدولية بالكاد تدلّ على أنه يقيم وزنا للعوامل الأساسية المؤثّرة في النزاعات الإقليمية والظواهر العالمية... مثل التوتر الإثني والتعصّب الديني والنزاعات الانفصالية والحركات الإرهابية.
أوباما ابن الأب الكيني الأسود والأم الأميركية البيضاء نتاج فسيفساء مثيرة جميلة كان كثيرون يأملون أن تعبّر عن نفسها بصورة أكثر تفهّما وحساسية تجاه ما يولّد مشاعر الإحباط والخوف عند فئات بشرية بعينها، ويدغدغ أحلام العظمة وأطماع الهيمنة عند فئات أخرى. فأبوه مسلم من قبيلة اللوو أحد أهم الشعوب النيلية في شرق أفريقيا وإحدى أهم الأقليات في كينيا، وأمه مسيحية مثقفة بروتستانتية أوروبية الأصل، وأخته من أمه إندونيسية بوذية أبوها مسلم. ولقد عاش باراك الصغير جزءا من حياته في هاواي، الولاية الأميركية الوحيدة التي لا يشكل الأوروبيون غالبية سكانها، والتي هي أقرب إلى الشرق الأقصى بكثير منها إلى أوروبا أو ساحل الأطلسي، كما عاش بعض الوقت في إندونيسيا مع أمه ودرس في مدارسها.
وفي الانتخابات الرئاسية الأولى التي ربحها أوباما فاز بالسواد الأعظم من الولايات الحدودية المطلة على العالم الخارجي بينما كسب الجمهوريون ولايات «الانكفاء على الداخل». وبعدها، عندما دخل البيت الأبيض في أعقاب المغامرات الخارجية لجورج بوش الابن توقع كثيرون من الرئيس الجديد أبعادا تغييرية في فهم أميركا العالم لمَن حولها. وتوقّعوا مقاربات جريئة، ورؤيوية تتجاوز المصالح العابرة الضيقة جديدا.
توقعوا الكثير.. ووعدهم أوباما بالكثير.. ولو بكلمة واحدة هي «التغيير»!
بالأمس وقف باراك أوباما ليلقي «كلمة الاتحاد». ولكن، بعد مضي النصف الأول من فترة رئاسة أوباما الثانية لم يحقق الرئيس الأميركي اختراقا يُذكر على صعيد السياسة الدولية سوى كسره حاجز العزلة عن كوبا، وهو حاجز عبثي فات الزمن على الفائدة المتوخاة منه منذ سقط مبرره المعلن. إذ إنه وفق منطق «الحرب الباردة» كانت كوبا في نظر المؤسسة السياسية في واشنطن مجرّد «مخلب قط» للتمدّد السوفياتي في القارة الأميركية، وبالتالي، لا بد من التخلص منه سلما أو حربا. وبعد فشل عملية خليج الخنازير العسكرية، شدّد طوق الحصار على كوبا بأمل سقوط التجربة الكاستروية. ولكن النتيجة كانت أن الاتحاد السوفياتي نفسه سقط وبقيت كوبا.. وهذا إن دلّ على شيء فعلى أن حكم كاسترو ما كان أبدا مجرّد «مخلب قط». وثانيا، على أن نهج واشنطن في التعامل مع «حديقتها الخلفية» - التي هي عموم القارة الأميركية - كان نهجا خاطئا من أسوأ وجوهه ارتباط السياسة الأميركية، على امتداد القارة، بديكتاتورية الجنرالات والكولونيلات على شاكلة بينوشيت وفيديلا وبانزر وستروسنر وغيرهم..
في الشرق الأوسط، بالذات، انكشف فشل السياسة الخارجية الأميركية أكثر من أي مكان آخر في العالم. واليوم، في كل مرة ينطق فيها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أو أي من أركان الإدارة، بتصريح يتبيّن اتساع الهوة بين المقاربة الأميركية الفعلية.. والمعالجة الناجعة المطلوبة.
محطتان لافتتان برزتا بالأمس على صعيد العلاقات الأميركية مع الشرق الأوسط: الأولى، حزم أوباما ضمن خطاب «حالة الاتحاد» إزاء أهمية استمرار التفاوض مع قادة طهران، ورفضه الصارم اعتراضات الجمهوريين عليه، وتهديدهم بفرض عقوبات جديدة على إيران. والثانية، التنافر العلني بينه وبين الكونغرس ذي الغالبية الجمهورية بعد توجيه الكونغرس الدعوة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإلقاء كلمة في الكابيتول.
الكلام الأميركي الرسمي العائم في الموضوع الإيراني ما عاد ينطلي إلا على السذّج من متابعي قضايا الشرق الأوسط. ذلك أنه غدا جليا من تصريحات أوباما حيال إيران منذ العام الماضي أن هذا الرئيس يعتبر اليوم نظام طهران نظاما حليفا، بل لعلّه أحد أقوى حلفاء واشنطن وأثمنها في الشرق الأوسط، ولا سيما، بعدما صارت محاربة «داعش» وغيره من التنظيمات المتطرّفة رأس الأولويات الأميركية إقليميا.
أوباما قال بالأمس إن «المقاربة الدبلوماسية مع طهران تؤتي أكُلها، ولذا لا يجوز للجمهوريين إجهاضها»، مكرّرا التلميح أن واشنطن لا طهران ستخسر من «العزلة» الناجمة عن انهيار المسار التفاوضي. غير أن هذا الكلام يجب أن يُفهم في سياق «صورة فسيفسائية» متكاملة أوهم أوباما نفسه بأن أحدا في المنطقة لا يتنبّه لها. فما يصفه الرئيس الأميركي بـ«المقاربة الدبلوماسية مع طهران» ينتج على الأرض الهيمنة الحوثية على اليمن، وانهماك موسكو - بمباركة أميركية - بالإجهاز على انتفاضة الشعب السوري، وإحكام القبضة الإيرانية على كل من العراق ولبنان. ومن رأى وسمع عبد الملك الحوثي وهو يتكلم ويهدّد برفع الإصبع يدرك وحدة الحال بين يمن - الحوثيين ولبنان - حزب الله بلا زيادة أو نقصان!
أما فيما يتعلّق بنتنياهو، فإن أوباما يدفع اليوم ثمن نسفه وعوده الكبرى إبّان زيارته المبكرة للقاهرة عام 2009 في مستهل فترة رئاسته الأولى حول فلسطين وإسرائيل، وهي وعود ذهبت أدراج الرياح بمجرد اصطدامه برفض اليمين الإسرائيلي تقديم أي تنازلات تخدم فرص سلام عادل ودائم في المنطقة، ومن ثم تفاقمت الأمور بعد أحداث غزة.
لقد اهتزت صدقية أوباما عند العقبة الأولى أمام التعنّت الإسرائيلي، ثم ارتبك مجددا عندما تحوّلت نسائم «الربيع العربي» إلى عواصف هوجاء اقتلعت أسس «الدولة» في الكيانات العربية التي تفنّن طغاتها في تدمير مقوّمات السلطة فيها كسوريا واليمن وليبيا.
اليوم، يمكن القول إنه خلال العامين المقبلين المتبقيين من فترة رئاسة أوباما على الرئيس أن يختار ما بين أن يمضيهما في صراع عبثي مع الجمهوريين يتجاهل تعقيدات الأوضاع الدولية وترابطها فيورث من يأتي بعده أزمات لا تنتهي، أو يتصرف كزعيم عالمي رؤيوي ومسؤول.. يخلّف وراءه تركة استقرار وازدهار.
لتاريخه، مع الأسف، يبدو أقرب إلى الخيار الأول.
9:8 دقيقة
TT
السياسة الخارجية: «فسيفساء» واشنطن.. ذات اللون الواحد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة