مشروعية الحكم في إنجلترا، ثم المملكة المتحدة، مرتكزة في جزء منها على شرعية انفصال كنيسة إنجلترا عن كنيسة روما.
وبالتالي فهذه الكنيسة كانت إحدى دعائم استقلال إنجلترا عن محيطها، وبدء نهضتها العظيمة في القرن السادس عشر، وتحولها من جزيرة على أطراف العالم القديم، لا يريدها أحد، إلى أول نور في العالم الذي نعرفه الآن - نصف اختراعات البشر حتى يومنا هذا، كما الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس سابقاً.
أما فرنسا فقامت دولتها الحديثة على مساومة، مفاوضة، مع كنيسة روما. يبقى المجتمع في فرنسا كاثوليكياً، تحت مظلة السلطة المعنوية للكنيسة، مقابل ألا يتدخل الكاردينالات في سياستها على الإطلاق. وفي المقابل لا يستخدم ساستها النفوذ الديني لتدعيم حكمهم. بمعادلة أخيرة موجزها: لا أحكم عليكم ولا تحكمون عليّ.
بصيغة أخرى: السلطة في بريطانيا احتاجت، ولو رمزياً، إلى وجود دينها المستقل كمصدر من مصادر الشرعية السياسية. والحكم في فرنسا اضطر إلى التخلي عن سلاح الدين من يده - وهو سلاح عزيز على كل حاكم ومفيد له - في مقابل أن يدعه رجال الدين في حاله.
قد يبدو هذان النموذجان متباينين. لكن الحقيقة أنهما منطلقان من منطق واحد يريد بقاء الدين في المجتمع، بين أفراده الأحرار في اعتناق ما شاءوا. منطق لا يريد مطاردة الدين في نفوس الأفراد كما فعلت بدايات الثورة الفرنسية، وبدايات الثورة البلشفية، والثورة الثقافية الماوية في الصين. في الوقت نفسه، يدار الحكم بناءً على المعرفة البشرية التفصيلية؛ لأنها الخيار الوحيد الذي نملكه.
ربما في علم السماء أن عام 2029 يحمل مفاجأة تقلب الموازين، لو علمنا بها لأسرعنا الخطى في اتجاه، أو لاسترخينا على الأرائك مطمئنين إلى نتيجة لن تتغير بجهدنا. من يعلم هذا؟ لا أحد. ليس بإمكاننا أن نضع هذا العلم السماوي في حسباننا ونحن نتخذ قرارات عسكرية أو اقتصادية. هذا عن المستقبل.
حين نقول عن معركة انتهت إنها «نصر إلهي» فالمفترض أننا نقول إنها نصر من إلهنا نحن. فماذا إن أثبتت السنوات أنها كانت نصراً للطرف الآخر، الذي يعبد إلهاً آخر أو حتى يعبد الإله نفسه بطريقة أخرى؟ بمن نعرِّض ونشكك هنا؟
حين يُبتذل الموضوع إلى درجة أن يقول معلق كروي إننا سننتصر في المباراة لأن الله معنا. ثم ينتهي اللقاء بالهزيمة، بمن نعرِّض ونشكك هنا؟ حين نفرض على الآخرين مظهراً معيناً وندّعي أنه من الكتالوج الإلهي لإصلاح حال المجتمعات، ثم نكتشف أن هذا المظهر لا علاقة له بسماحة الطبع ولا صلاح النفس، أو أنه لم يخلق مجتمعاً أفضل.. بمن نعرِّض ونشكك هنا؟
أفضل للجميع أن تكون الدولة ضامنة لحريات مواطنيها الشخصية، وتشريعاتها موجهة إلى هذا. بهذا يسعد المؤمن بهذا النمط ويسعد المؤمن بذاك. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، بدل أن يتصارع المتصارعون. إنْ رأى الآخرون أن نمط إيمانك جعل حياتك أفضل سينجذبون إليه.
يعني هذا أيضاً أن الدولة الضامنة للحريات الشخصية والاعتقادية لمواطنيها، على اختلافهم، تشجع الناس على أن يقدموا نموذجاً جذاباً، لا أن يفرضوا نموذجاً بغضّ النظر عمّا نتج عنه.
يظن المتدينون أن إقحام الدين بقوة في السياسة سيصبّ في صالحهم. لكن الحقيقة أن حكم أهل الدين على أهل السياسة استثناء في التاريخ، لا العكس. الأغلب أن الصراع بين رجال السلطة الزمنية ورجال الدين سينتهي بانتصار السلطة، وتوظيف الدين لخدمتها. في المرات القليلة التي ينتصر فيها رجال الدين تكون المأساة أكبر على الدنيا والدين كليهما.
أقصى ما حقق رجال الدين في التاريخ الإسلامي، حين تعاظمت سلطتهم، كان السيطرة على المجتمعات ومحاربة المفكرين. وكان هذا وبالاً على تطور المجتمعات المسلمة. وبال لم تنتبه إليه بعض دولنا الحديثة حين ساومهم رجال الدين السياسي على استمرار نمط القرون الوسطى وإلا... فرضخت دول، وأضافت إلى سلطتهم الدينية سلطة دنيوية أيضاً. فصار واحدهم متعالياً بـ«المعرفة الإلهية»، ومحتكراً لها، ثم - أيضاً - مشاركاً في المعرفة الدنيوية متغلغلاً في مؤسساتها. مصر الحديثة، بقوانين جمال عبد الناصر التي سمّاها إصلاح الأزهر، فعلت هذا الخطأ التاريخي.
لم تستفد هذه الدول حتى من التراث الديني الإبراهيمي، المقصوص علينا المعروف لدينا. هذا ما فعله اليهود حين طلبوا مُلك داوود، حتى لا يجمع أبناء اللاوي (سبط موسى وهارون) بين الدين والحكم. موجود هذا بوضوح في العهد القديم، وأشار إليه القرآن.
جماعات الدين السياسي تريد أن تذهب إلى ما لم يذهب إليه رفاق النبيين، موسى ومحمد. أو ما ذهب إليه المسيح صراحةً «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله». ونحن ندفع الثمن.
8:37 دقيقه
TT
الحكمة الضائعة في الدين السياسي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة