إن أسوأ ما يمكن للرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن أن يفعله في الفترة المقبلة، هو قضاء المزيد من الوقت مع محامي الانتخابات. فلقد بدأت تصرفات الكواليس الخلفية غير اللائقة والمثيرة للإزعاج من طرف الرئيس دونالد ترمب في التلاشي بالفعل. وشرعت تحديات حكم البلاد في الظهور والنمو خلال المرحلة القادمة. وتكمن الحقيقة الصارخة في أن ميراث الرئيس المنتخب الجديد هو أصعب بكثير مما يدركه أغلب أنصار السيد بايدن لسببين رئيسيين:
أولاً، مع كشف وباء فيروس «كورونا» المستجد عن وجهه القبيح، يتخلّف أداء الولايات المتحدة في مواجهة الكارثة الراهنة عن الكثير من بلدان العالم، ليس فقط في مجال الرعاية الصحية، وإنّما في معظم مواطن الأداء الحكومي الأخرى. ثانيا، القليل من هذا التخلف في الأداء الحكومي لا يرجع بالأساس إلى أخطاء الرئيس دونالد ترمب. ويعد فتى البيت الأبيض المدلل والمثير للفوضى من أبرز أعراض أسقام الولايات المتحدة بأكثر من كونه سبباً لها. ومجرد رحيله عن المعترك الرئاسي في البلاد لن يقدم الكثير من الحلول في شيء.
ومن هذه الزاوية، ينبغي للسيد جوزيف بايدن أن يقوم بما قام به قبله الكثير من رؤساء الولايات المتحدة الكبار، عندما بدأت بلادهم في المعاناة من أسقام التراجع والتدهور: التطلع إلى الخارج والاستعانة بما يُجدي.
ورغم كل ما يُقال عن النزعة الاستثنائية الأميركية، فإنّ أفضل زعماء الولايات المتحدة لم يتوانوا أو يخجلوا من التعلم من الخارج أبداً، لا سيما في أوقات الشدائد. وعكف الآباء المؤسسون على دراسة واعية للنظم السياسية الأكثر نجاحاً في العالم، وعلى وجه الخصوص نظم الحكم في بريطانيا، وفرنسا، وروما القديمة. وانكب السيد جيمس ماديسون على دراسة الدساتير المقارنة حال وجوده في برينستون، في حين استعان جون آدامز وتوماس جيفرسون بخبرات العمل الدبلوماسي كمبعوثين إلى فرنسا.
وقبل قرن من الزمان، كان التقدميون الأميركيون يسرقون الأفكار السياسية من القارة الأوروبية العتيقة: لدرجة أن الرئيس الأميركي الراحل وودرو ويلسون شرع في تدوين التاريخ العالمي للدولة بُغية إعادة هيكلة مؤسسات الحكم الأميركية استعداداً لفترة ما بعد عدم التدخل. وإبان فترة الكساد الكبير، أسس الرئيس الراحل فرنكلين روزفلت نظام الضمان الاجتماعي استمدادا من أنظمة التقاعد المعمول بها في البلدان الأجنبية، واستعان أيضاً بالخبير الاقتصادي جون ماينارد كينز في تأمين المزيد من الأفكار الاقتصادية المبتكرة. وكان الرئيس الأسبق ليندون جونسون قد استعار عبارة «المجتمع العظيم» من الأكاديمي البريطاني غراهام والاس، في حين اقتبس الرئيس الراحل رونالد ريغان فكرة «الخصخصة» من رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر. واستند أكثر رجال الولايات المتحدة نفوذاً في أواخر القرن العشرين - هنري كيسنجر - في الكثير من أعماله الدبلوماسية على المفهوم الأوروبي لتوازن القوى العالمية.
وفي الأيام الجارية، لا يزال السيد كيسنجر يعتمد على أعمال الأمير ورجل الدولة النمساوي كليمنس فينزل مترنيش، وكذلك أعمال السياسي والدبلوماسي الفرنسي شارل موريس تاليران، سيّما عندما يفكر في العلاقة الراهنة ما بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ولكن فيما يتصل بالسياسات العامة في البلاد، فإنّه يعتبر مفكراً من مستوى استثنائي. بيد أنه مما يؤسف له أن الولايات المتحدة قد توقفت عن التعلم من الخارج فيما يتعلق باستيراد الأفكار الجديدة، وتحولت العاصمة واشنطن إلى أكثر عواصم العالم المتقدم ضيقاً من حيث الأفق السياسي، إذ ينشغل أعضاء جماعات الضغط السياسي والمحامين الذين يعيشون في العاصمة واشنطن باستغلال معرفتهم الكبيرة بتعقيدات النظام الأميركي، في اكتساب الميزات لصالح عملائهم ووكلائهم.
وبطبيعة الحال، لم يساعد الرئيس ترمب الذي تتمحور سياساته الخارجية حول شعار «أميركا أولا» في شيء، غير أن حالة ضيق الأفق الملازمة للسيد دونالد ترمب ليست بالأمر الغريب عليه. وبعد رحيل السيناتور دون ماكين، هل بإمكان أحدنا أن يذكر اسم سيناتور أميركي واحد قادر على تفهم وإدراك مجريات العالم الخارجية من حولنا تمام الإدراك؟
إنّ حالة التناقض الراهنة مع القطاع الخاص باتت مريعة وصارخة إلى حد بعيد. فلا تزال الشركات الخاصة الأميركية تمارس سرقة الأفكار من مختلف أرجاء العالم: ويواصل «وادي السيليكون»، و«وول ستريت» امتصاص المواهب الفذة الموجودة في الخارج. بيد أن الساسة في العاصمة واشنطن مهوسوون بقواعدهم الانتخابية، والتي هي في ضوء النظام الأساسي المعمول به في الولايات المتحدة، لا تعني سوى شريحة طفيفة من أصحاب الآيديولوجيات العالية من سكان البلاد. ولا يعني ذلك أن وسائل الإعلام الأميركية تساهم أو تساعد في شيء: على سبيل المثال، كانت إحدى غرف الأخبار الأميركية قد أذاعت أن الألعاب النارية التي انفجرت في سماء العاصمة البريطانية لندن في يوم الخميس الموافق 5 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الجاري، هي للاحتفال بهزيمة الرئيس دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية، ولم تكن على علم مسبق بيوم «غاي فوكس» الذي تحتفل به المملكة المتحدة منذ قرون مضت.
لا يمكننا اعتبار تاريخ الإمبراطوريات العظيمة التي تحول تركيزها واهتمامها بشؤون الداخل فقط تاريخاً سعيداً بحال. وكان لزاماً على الرئيس الأميركي القادم أن يواجه ويتعامل مع هذه الحقيقة، بيد أن جائحة فيروس «كورونا» المستجد قد أظهرت أنّ الولايات المتحدة المنعزلة عن العالم قد تراجعت وتدهور دورها بأكثر مما تنبئنا به أكثر التوقعات تشاؤماً.
لقد كان الوباء العالمي، من بين أمور أخرى كثيرة، بمثابة الاختبار العالمي للقدرات والإمكانات والأداء الحكومي في أوقات الأزمات. ونشرت شبكة بلومبرغ الإخبارية في الأسبوع الماضي دراسة دارت حول «مقاومة الفيروسات»، واحتلت الولايات المتحدة الأميركية المرتبة 18 ضمن 53 دولة على قائمة تلك الدراسة. وكان يمكن لتلك المرتبة أن تكون أدنى من ذلك بكثير، لولا نجاح شركات القطاع الخاص في إنتاج بعض اللقاحات المضادة.
* رئيس تحرير «بلومبرغ»
* المحرر السياسي في {الإيكونوميست}
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»