علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

العظمة ورضا

العبارة التي نسبها عبد العزيز العظمة في كتابه «مرآة الشام: تاريخ دمشق وأهلها» إلى اللنبي، حينما احتل القدس، وهي أن الحروب الصليبية تنتهي اليوم باسترداد الجنود الإنجليز للمدينة المقدسة، أتت في معرض استعراضه لأقوال قادة وزعماء غربيين (نابليون، نيقولا الثاني قيصر روسيا، اللورد سالسبوري رئيس الوزراء البريطاني، هنري غورو، الكونت دي مارتيل المفوض السامي الفرنسي في سوريا، الجنرال دانتر المفوض السامي الفرنسي في سوريا)، التي نضت عنها ثوب العلمانية، وتدرّعت بالروح الصليبية. وكان في هذا الاستعراض يخاطب الغرب، ويظهره بصورة المتناقض مع عصر تنويره العلماني.
اللافت أنه في استعراضه هذا، لم يأتِ بالقول الشهير المنسوب إلى غورو: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»، وإنما أتى بقول آخر قاله في بيروت وليس في دمشق!
ففي أول استعراضه لأقوال أولئك القادة والزعماء قال: «قال الجنرال غورو المفوض السامي الفرنسي في سوريا في خطاب ألقاه في بيروت سنة 1920 ما تعريبه: إنني سليل الصليبيين الذين دوّخوا هذه البلاد في غابر الزمن، وقد أتيت إلى هنا لأتمم ما تركه أولئك الأبطال».
ثم علق مناقشاً: «إننا نشكر حضرة الجنرال على صراحته المفصحة عما يكّنه ضميره وتنويه حكومته عن المضي على سياسة الصليبيين، وما سياسة الصليبيين إلا احتلال البلاد والقضاء على أهلها قتلاً وتشريداً، كما ذكره لنا التاريخ عن حملاتهم العشر التي أثاروها في الأندلس وصقلية وغيرها. وطالما قال قائلهم إن تلك الأعمال البربرية مضت مع القرون الغابرة، وقضى عليهم عصر النور الذي ابتدأ منذ الثورة الفرنسية الكبرى في مستهل القرن التاسع عشر للميلاد، حيث أصبحت الحرية والمساواة والإخاء هي الشعار الوحيد لكل البشر، الذي رأى من الحكمة وأصالة الرأي خدمة الإنسانية عامة من دون أن تنظر إلى دين أو مذهب. فهل تم ذلك يا ترى؟».
يجيب عن سؤاله هذا قائلاً: «نحن لا ننكر حصول فكرة التعاون بين بعض الأفراد في كثير من المواطن والمواقف، ولكن الطبيعة البشرية المبنية على أساس حب الإثرة والجشع ما زالت تسود المجتمعات عامة، وخصوصاً في بلاد الغرب الذي لم يتح له الانتباه مما أراق معه كثيراً من الدماء بسبب اختلاف الأديان والمذاهب في القرون الخالية، ولبث يناصر الصليب على طول الخط، مخالفاً بذلك الأصول والنظريات التي أعدتها مجامعه وأعلنتها محافلة».
ثم يسرد بعد ذلك الأقوال المومأ إليها. وبعد أن يسردها يستأنف المناقشة سائلاً: «هل هذه الأقوال والأفعال تتفق في شيء مع تلك المبادئ النبيلة؟ ثم هل يتأتى في أن تكون تلك الأقوال التي صدرت من أفواه رجال رسميين هي معتقدهم الخاص، وأن حكومتهم على خلاف تلك الفكرة؟ لو كان الأمر كذلك لبادرت الحكومة الفرنسية إلى تصحيح أغلاط مفوضيها وأرجعتهم إلى جادة الصواب على الأقل. أليست هذه التجزئة، ثم جلب الأرمن والشراكسة واليهود والآثوريين والسريان وغيرهم من شذاذ الآفاق، وإسكانهم في مختلف أنحاء بلادنا، هو مقدمات لتلك السياسة التي توالي الحكومات الفرنسية اتباعها على اختلاف أحزابها، وفي مختلف أوقاتها... ألا نستدل من ذلك أن الأمر مدبر ومقرر من قبل، وأننا إن لبثنا على الحال الراهنة فمصيرنا الإشراف على شافة الانقراض والتشرد زمن أم الحرية والديمقراطية لا في أيام الأتراك، كما كان يقول الدعاة المضللون».
قبل أن يشرع عبد العزيز العظمة في كتابة مذكراته بخمس سنوات، كان رشيد رضا بعد مضي أربع سنوات من تغير موقفه من الشريف حسين والثورة العربية الكبرى من موقف المؤيد إلى موقف الناقد، كتب في شهر أبريل (نيسان) عام 1925 في مجلة «المنار» مقالاً قال فيه: «إن الأوروبيين الذين تقول إنهم نبذوا الدعوة الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية، ويتكلمون في عداوة الإسلام... أفما قرأت ماذا كانوا يكتبونه عن سقوط القدس في يد الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى من كون ذلك هو الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية التي أقيمت في ذلك الوقت؟ أفما سمعت خطبة المارشال اللنبي نفسه على تتمة الحروب الصليبية على يده؟».
في هذا المقال، لا يعتبر رشيد رضا العبارة المنسوبة إلى اللنبي هي عبارة خاصة به، بل هي عبارة قالت بها كتابات صحافية أوروبية!
وقبلها في مقال له في تلك المجلة، بعيد بضعة أشهر من تغير موقفه من الشريف حسين ومن الثورة العربية الكبرى، وذلك في عام 1921، ادعى أن رئيس مجلس الوزراء البريطاني ديفيد للويد جورج، وصف التجريدة المصرية التي وجهت إلى فتح القدس، بأنها آخر حملة صليبية!
يختلف موقف رشيد رضا عن موقف عبد العزيز العظمة مع مؤازرتهما للرابطة العثمانية بأن موقفه السياسي من الدولة التركية يتسم بالاضطراب. فهو تارة مؤيد لسلطة السلطان عبد الحميد المطلقة، وتارة رافض لها. وهو حيناً مناصر للاتحاديين وحيناً رافض لهم. وكذلك كان حاله مع مصطفى كمال. في حين أن عبد العزيز العظمة ذا النشأة والتعليم العثماني ظل إلى وفاته عثمانياً صلداً متيبساً على ولائه لولاية الترك على العرب. فهو برغم انفتاحه وتفتحه الديني، وبرغم اطلاعه على أحوال زمانه السياسية والثقافية، وعلى المتغيرات التي حصلت فيها، كان لا يتصور الدولة في بلدان الشام إلا من خلال مفهوم ديني إمبراطوري عثماني، ولا يتصور أهل هذه البلدان إلا رعية عثمانية.
في تقديري أن السبب الذي جعله لم يأتِ بالعبارة المنسوبة إلى غورو، وأتى بقول آخر له، هو أنه لم يسمع بها رغم أنه دمشقي، وكان في دمشق حين دخل غورو إليها. وهذا التعليل يلقي بظلال من الشك على أن غورو قد قالها.
أما القول الآخر الذي نسبه إلى غورو، وانفرد بذكره، ولم يذكر مصدره فيه، فبصرف النظر عن صحة نسبته إليه، فإنه قد قاله عنه مساعده الجنرال جورج كاترو بتعبير آخر.
وفيما يخص ما نسبه إلى اللنبي، فلا توجد أي بيّنة عليه. كما أنه لا يوجد في شخصيته مؤشر يضع في دائرة الاحتمال، أنه من الممكن أن يقوله.
إن بيّنة عبد العزيز العظمة على صحة ما نسبه إليه، هي حصوله على مرتبة المارشالية ولقب اللورد إثر استيلائه على القدس، مكافأة له من حكومته على تمكنه من الاستيلاء عليها!
هذه البينة ليس لها أساس. فهو قد منح رتبة المارشالية في عام 1919، لتميزه في تاريخ خدمته العسكرية منذ حرب البوير الثانية (1898 - 1902) إلى طرده القوات العثمانية من فلسطين وسوريا ما بين عامي 1917 و1918. ولقب فيلد مارشال لقب عسكري لا يمنح في الغرب منذ أيام الاستعمار وقبلها لسبب ديني خفي، أو ظاهر، أو لهوى شخصي، وإنما يمنح لمن هم أصحاب الإنجازات العسكرية المتميزة، ومن كسبوا المعارك العسكرية الضخمة. ولقب اللورد ليس من ضمن تسلسل الألقاب النبيلة في بريطانيا، وهو لقب لا يمنح، وإنما هو لقب إقطاعي متوارث من أيام «الماغنا كارتا» (1215)، ويستخدم رسمياً في مخاطبة النبلاء أو علية القوم، وإن لم يكونوا ممن يحملون لقب لورد.
اللقب الذي منح لإدموند اللنبي في عام 1919، هو فيسكاونت أو فيكاونت مَجِدُّو وفيلكسستو الأول. ومَجِدُّو وفيلكسستو هما منطقتان في مقاطعة سوفولك. والأول هو إشارة إلى أنه أول من حاز هذا اللقب في هاتين المنطقتين. وهذا اللقب بحسب تسلسل الألقاب البريطانية النبيلة يتلو لقب الإيرل ويسبق لقب البارون.
إن اسم التجريدة العسكرية التي هزمها الأتراك والألمان قبل أن يتولى اللنبي قيادتها، مرتين في معركة غزة الأولى ومعركة غزة الثانية، وانتصر بها اللنبي في معركة غزة الثالثة، اسمها التجريدة المصرية، وقد شارك فيها عدد غفير من المصريين المسلمين، وهذان الأمران كان لهما دلالة، وهي أن بريطانيا كانت حريصة على نزع طابع الحرب الدينية عنها.
جاء في استعراض العظمة لأقوال قادة وزعماء الغرب قوله: «ثم ينادي اللورد سالسبوري رئيس وزراء إنجلترا في مجلس العموم البريطاني عن غلبة العثمانيين على اليونان سنة 1314هـ 1898م ويقول: إن البلاد التي دخلت راية الصليب لا يمكن أن يعود إليها الهلال، ويتبعه الإمبراطور إسكندر الثالث قيصر الروس ويضغط على السلطان عبد الحميد ملك الدولة العثمانية، ويضطره إلى عقد الصلح مع اليونان بعد أن كادت جنوده قد استولت عليها وكادت تستأصلها»!
عن هذا القول يقول رشيد رضا في تفسيره لسورة الأنعام في صفحة «آية الله بتسخير الروس للترك والفرس والأفغان»! وهو يتحدث عن سياسة بريطانيا في القضية التي أشار العظمة إليها: «ضرب الأمم بعضها ببعض، وخلق لهذه الدولة (كذا) من المشاكل السياسية ما حال بينها وبين ما تشتهي من الإجهاز على سلطان الإسلام، والجري على قاعدة: ما أخذه الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال».
ووضع هامشاً لهذه القاعدة الصليبية، نصه ما يلي: «بلغنا أخيراً أن واضع هذه القاعدة هو مستر غلادستون أشهر وزراء إنجلترا من حزب الأحرار، وكان بغضه للإسلام عظيماً. وكنا سمعنا من قبل أن واضعها هو اللورد سالسبوري من رؤساء وزارات المحافظين. ولها فقرة أخرى، وهي: ما أخذه الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب».
أحمد أمين في كتابه «يوم الإسلام» الذي ألفّه عام 1952، لم يقع في اللبس منذ البداية، فما لغلادستون لغلادستون وما لسالسبوري لسالسبوري. فهو يقول: «وقال مستر جلال دستون من مشاهير الإنجليز: بوجوب إعدام القرآن، وتطهير أوروبا من المسلمين. وقال لورد سالبوري من عظماء الإنجليز أيضاً: بوجوب إعادة ما أخذه الهلال من الصليب للصليب دون العكس». وللحديث بقية.