مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

وللجوع لقاح

كما في تسمم المعدة والتي معها لا يستطيع الإنسان الاحتفاظ بالطعام والماء في جوفه، دخل الإنسان في عصر كورونا مرحلة تسمم العقل، الذي معه لا يستطيع الإنسان الاحتفاظ بالأمل وقصصه التي تثبت أقدامنا على الأرض. يكرِّر الناس حكايات الرعب والموت. ومع زحام قصص الرعب يهرب الأمل وتهرب ملامحه. هذا هو الجديد في حالة الهلع والخوف من الموت القريب، مع أن الموت جوعاً مثلاً يحصد تسعة ملايين سنوياً، رغم أن للجوع لقاحاً واضحاً ومعروفاً وفي متناول الدول والمؤسسات الخيرية.
الموت جوعاً هو الذي يتطلب نظافة اليدين كل يوم، وبنظافة اليد لا أقصد غسلها بالماء والصابون حرفياً، ولكن أقصد تطهير اليد بمعنى نظافتها من الفساد والإفساد، الذي هو السبب الأول للموت جوعاً وأحياناً من أمراض عادية، لأنَّ ميزانيات الصحة تسرق نهاراً جهاراً أو توجه إلى وجهات أخرى. لقاح الجوع يتمثل في توزيع عادل للثروات والوظائف والرعاية، وهذا يظهر على السطح في أيام الاضطرابات الاجتماعية كالثورات والكوارث الطبيعية والأوبئة، كما الحال الآن، ثم يختفي بعدها تماماً.
مثلاً كان سلوك المصريين في أجمل حالاته خلال الثمانية عشر يوماً من ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، ثم اختفت روح المحبة والتراحم والترابط بعدها ويبدو إلى الأبد. فهل فكرت الدول والمؤسسات أن الناس، حتى في البلاد المتقدمة تخاف من الجوع والفقر ربما أكثر من خوفها من الفيروس؟ هناك الآلاف يموتون جوعاً بين ظهرانينا ولا نراهم، رغم أن للجوع لقاحاً!
للجوع لقاح اسمه العدل والرحمة ونظافة اليد.
طهارة اليد ونظافتها التي أصبحت تسبيحاً يلهج به الناس صباح مساء والتي صاحبت كل الأحاديث عن فيروس الكورونا.
وخصوصاً طهارة اليدين، يجب أن تجعلنا نفكر بعمق في دلالات العبارة. طهارة اليد هي كل الموضوع في مجتمعاتنا؛ ليس في عصر كورونا ولكن فيما بعده. ففيروس الفساد أشد فتكاً بالمجتمعات من كورونا. وللجوع لقاح.
يكون للجوع لقاح عندما يمتثل الناس إلى تعاليم خالق هذا الكون العجيب. «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها»... (سورة التوبة). إن الإنفاق ضد الحاجة والفقر والمساهمة في تفريج كربة المحتاج لهي المنظف الأول للقلوب. وفيروس القلوب هو الجفاء والابتعاد عن الرحمة. ففي الوقت الذي يموت فيه الناس جوعاً تجد الفاسدين يتغولون على المال العام ويسرقون حقوق الفقراء. فعلى كل من سرق المال العام أن يعيده أو يتبرع به ليتطهر مما سبق أن اقترفه ويطهر نفسه وقلبه، ففي طهارة اليد طهارة للقلب. فلحظة كورونا يجب أن تكون لحظة صدق مع النفس. إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين... وللجوع لقاح.
هذا على الصعيد الفردي، ما على الإنسان أن يفعله. لكن الموضوع جانباً أساسياً هو الذي يتحكم في توزيع الثروات، وهي الدول وما يسمى التنمية غير المتكافئة (lopsided development) في الدول النامية التي ترتب أولوياتها في إطار الدفاع والهيبة، دونما وضع القضاء على الفقر ضمن أولوياتها، فكثير من الدول التي تبدو غنية بها نسب عالية من مواطنيها يعيشون تحت خط الفقر.
هناك أيضاً مسألة الشمال المتقدم والجنوب الفقير في عالم العولمة المتوحش. فروق كبيرة بين تكدس الأموال في الغرب الصناعي وشحها في الشرق النامي.
إن إعادة النظر في عدالة التوزيع داخل الدولة الواحدة وبين الدول لهي بداية جيدة للقضاء على فقر يؤدي الموت.
إذن الموضوع ليس البحث عن لقاح كورونا، وإنما عن القدرة الاستيعابية للمستشفيات في كل مساحة الدولة؛ ليس العاصمة فقط أو المدن الكبرى، وإنما الأقاليم التي تخلو من مستشفيات تليق بالبشر. طهارة اليد هي التي توصلنا إلى توزيع عادل للثروات داخل البلد الواحد وبين الدول إذا نظرنا للموضوع بعمق. للجوع لقاح.
إننا نخاف من الموت في عصر كورونا، لأننا نرى تكدس المرضى والجثث في المستشفيات. يبدو الموت قريباً لنا، موت عار وفج ومتوقع مفاجئ في آن. نخاف الموت الذي نراه يومياً، ولكننا لا نخاف وربما لا نعلم عن موت يقتل تسعة ملايين نسمة سنوياً، وللموت من الفقر لقاح واضح ومعروف للجميع، ومع ذلك لا نهلع، لأن الموت فقراً والحديث عمن يموتون من الفقر لا يجلب المتابعين لمشاهير الغمة ولا يجلب أصواتاً للراغبين في الوصول إلى سلطة، إنه تسمم العقول والقلوب الذي يخفي عن أعيننا موت الفقراء.
رغم أن للموت لقاحاً، فإن تسعة ملايين من البشر يموتون من الفقر كل عام.