في منتصف 1971 طالب الرئيس المصري أنور السادات، بالرجوع لما سماه «أخلاق القرية». وفهمنا لاحقاً أن محور اهتمام الرئيس، هو منظومة العلاقات المجتمعية التي يشكل «كبير العيلة» قطبها ومجمع الخيوط التي تربط بين أطرافها.
ولم تحمل دعوة السادات على محمل الجد، فلا هو يعيش في قريته ولا هو ارتضى أن يدير علاقاته مع الناس، ولا سيما النخبة المصرية، على النحو المتعارف في الأرياف.
لكن الفكرة بذاتها - فكرة «أخلاق القرية» - تبدو راسخة الجذور في حياة العرب، بمن فيهم أولئك الذين لم يستوطنوا الريف أبداً، فضلاً عن نظرائهم الذين هجروا قراهم منذ بواكير الشباب، واستقروا في المدينة. إنها أقرب إلى نزوع متخيل أو تطلع مليء بالشوق لما يعتبرونه مثلاً أعلى في العلاقات الاجتماعية.
دعني أولاً أذكّر القارئ العزيز بأن كلمة الأخلاق الواردة هنا، تعني أي نوع من السلوك المعروف، أي الذي يصنفه الناس حسناً أو قبيحاً. فهي لا تنطوي على مدح أو ذم. لكن السياق هو الذي يضعها ضمن دائرة دلالية تنطوي على مدح أو ذم، كحال دعوة الرئيس السادات التي تضع الأخلاق المذكورة في سياق إيجابي بحت.
تتسم القرى بصغر كتلتها السكانية والجغرافية. ولذا نفترض أن جميع سكانها يعرفون بعضهم البعض، بالاسم أو بالانتماء العائلي، وأن كثيراً منهم يرجع إلى نسب واحد.
أما نمط الإنتاج والمعيشة، فهو في العموم محدود وبطيء الحركة. من المفهوم طبعاً أن الثقافة والسلوكيات (الأخلاق) والقيم والتوافقات التي تحدد نظم العلاقة بين الناس، تتأثر كلها بالحاجات المعيشية ومصادر الإنتاج وأدواته. لكن بالنسبة لكتلة بشرية صغيرة متعارفة على المستوى الشخصي، فإن المكان يتحول إلى إطار لثقافة موحدة، تدعم نظاماً أخلاقياً وسلوكياً واحداً.
في القرية «يكتشف» الإنسان عالماً جرى تصميمه من قبل، وليس أمامه فرصة غير الاندماج فيه. ومن هنا فإن انتقال الإنسان من مرحلة الطفولة إلى الشباب، تتضمن – بالضرورة – عملية أدلجة وبرمجة وتوضيب للشاب كي يندمج في الحياة الاجتماعية.
يختلف الأمر في المدينة. فالناس يأتون من خلفيات اجتماعية متباينة، ويعملون في مواقع ومهن ومستويات مختلفة، كما يلتقون يومياً بعشرات الناس الذين ينتمون إلى مختلف الدوائر الاجتماعية والثقافات وأنماط المعيشة.
وهذا يجعل كلاً منهم في حالة تفاعل (فعل/ انفعال/ جذب/ انجذاب) مع دوائر اجتماعية عديدة. بعبارة أخرى فإن الهوية الشخصية لابن المدينة، لا تحمل لون عائلته أو لون المجتمع الصغير الذي يشبه مجتمع القرية، هويته في حال تفاعل مع العشرات من الأشخاص الذين يراهم كل يوم، والذين يحملون هويات وهموماً متباينة. إن هوية ابن المدينة في حالة شبه سائلة، تتغير كل يوم، قليلاً أو كثيراً. وتتغير معها علاقاته مع الدوائر القريبة منه، بمن فيهم أقاربه والمنتمون إلى محيطه المباشر.
يصح القول إذن إن المدينة ليس فيها عرف عام يصنعه الناس، كما هو الحال في الريف.
عرف المدينة مجموعة كبيرة من الأعراف المختلفة (والمتباينة أو حتى المتعارضة أيضاً)، الأمر الذي يجعل القانون العام بديلاً ضرورياً لتنظيم الحياة والعلاقات بين الناس. ولهذا السبب أيضاً نحتاج لقانون لا يقتصر على تحديد الواجبات والعقوبات المفروضة على التقصير فيها. تحتاج المدينة إلى قانون يرسي الأساس الأخلاقي لأعراف وتقاليد تناسب الحياة في المدينة، وتساعد في توليد نوع من الوحدة الاجتماعية أو ما نسميه «روح الجماعة» في مجتمع يفتقر تماماً إلى أرضية تاريخية للوحدة.
7:37 دقيقه
TT
أخلاق المدينة وحدودها
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة