على امتداد 40 عاماً، انشغل الرؤساء الأميركيون بسؤال جوهري بخصوص إيران، كان أفضل إيجاز له ما طرحه هنري كيسنجر: هل هي دولة أم قضية؟ مساء الخميس، قدم دونالد ترمب له الإجابة: إيران قضية، تحديداً قضية إرهابية، وسيجري التعامل معها على هذا النحو.
ربما يخلف الهجوم الذي وقع باستخدام طائرات «الدرون» الذي أمر بتنفيذه ترمب، وأسفر عن مقتل الجنرال قاسم سليماني الذي يصعب على النظام الإيراني الاستغناء عنه، تبعات دائمة. جدير بالذكر أنه منذ عهد جيمي كارتر، فرض الرؤساء الأميركيون المتعاقبون عقوبات ضد إيران وقياداتها لرعايتهم جماعات إرهابية مسؤولة عن أعمال فوضى وسفك دماء بمختلف أرجاء العالم. إلا أنه حتى الخميس تمتعت هذه القيادات بالحصانة من المصير المروع لأسامة بن لادن أو أبو بكر البغدادي.
ومن المتوقع بوجه عام أن تتعاون الدول القومية ضد الإرهابيين، لكن تحت قيادة سليماني كانت إيران من العناصر الكبرى المسهلة للإرهاب. وبدءاً من عام 2003 بنى سليماني شبكة من العملاء بمختلف أرجاء الشرق الأوسط أدت إلى تحريك التوازن لصالح إيران. وتحت قيادته، تسببت ميليشيات شيعية في العراق في إصابة أو قتل آلاف الجنود الأميركيين عن طريق عبوات ناسفة فتاكة زرعت على جوانب الطرق. كما تولى سليماني تنظيم تسليح وتدريب التمرد الحوثي في اليمن. كما خطط للتدخل في سوريا الذي أنقذ آلة الحرب الوحشية لبشار الأسد. كما عاون في التخطيط للحملة القاسية التي شنتها الحكومة العراقية ضد المتظاهرين من مواطنيها المناهضين لإيران.
ومع هذا، نظر سليماني لنفسه باعتباره شخصاً لا يمكن المساس به. وعليه، لم يتخذ الاحتياطات المعتادة من قبل رجل مرصود من أجل إخفاء تحركاته وموقعه. في الواقع، كثيراً ما كان يلتقط صور «سيلفي» من خطوط أمامية متنوعة في الحرب الإقليمية التي تخوضها إيران، في محاولة لاستفزاز خصومه.
في بعض الجوانب، يبدو هذا الهجوم بطائرات «درون» مفاجئاً. في يونيو (حزيران)، ألغى ترمب قراراً بضرب مواقع إيرانية في اللحظة الأخيرة بعد إسقاط إيران طائرة «درون» أميركية فوق مياه الخليج. وخلال الصيف حتى الخريف، صعّد ترمب حدة العقوبات المفروضة ضد النظام الإيراني، لكنه حاول في الوقت ذاته إعادة إطلاق المفاوضات مع القيادات السياسية بالبلاد. وشن ترمب هجوماً شديداً على «الحروب دونما نهاية» التي شنها من سبقوه في الرئاسة وسعى لسحب القوات الأميركية من سوريا.
من جانبها، استجابت إيران لهذه الضغوط الاقتصادية عبر التصعيد العسكري. في سبتمبر (أيلول)، اتهمت الولايات المتحدة إيران بمهاجمة منشأة تكرير نفط سعودية كبرى. وأعقب ذلك سلسلة من الهجمات الإيرانية ضد ناقلات نفطية في الخليج. وفي أكتوبر (تشرين الأول)، بدأت ميليشيات شيعية مدعومة من إيران مهاجمة مواقع أميركية في العراق. وخلال الشهور الأخيرة، ازدادت هذه الهجمات جرأة، وبلغت ذروتها في الهجوم الذي وقع الأسبوع الماضي في كركوك وأسفر عن مقتل مقاول أميركي وجرح الكثير من العسكريين الأميركيين.
وكان ذلك تجاوزاً لخط أحمر من وجهة نظر ترمب، والذي وجه تحذيراً لإيران منذ الربيع الماضي بأن الولايات المتحدة سترد بالأسلوب ذاته على هجوم يسفر عن مقتل مواطن أميركي. واستجابت الولايات المتحدة هذا الأسبوع بالفعل بقصفها قواعد تتبع جماعة «كتائب حزب الله» في غرب العراق وسوريا.
بعد ذلك، اجتاح أنصار للميليشيا التي تقودها إيران السفارة الأميركية ببغداد، الأربعاء، وأضرموا النيران واحتجزوا الدبلوماسيين داخلها رهائن لمدة 24 ساعة قبل انسحابهم نهاية الأمر. وأصدر وزير الدفاع مارك إسبر تحذيراً بعد الحصار قال فيه: «إذا تعرضنا لهجمات، فسنتخذ إجراءات استباقية لحماية القوات الأميركية والأرواح الأميركية».
وتمثلت النتيجة في أن الرجل الذي تولى إدارة الإرهاب نيابة عن إيران لقي ذات المصير الذي لقاه الإرهابيون الذين كان يتولى توجيههم. ويعتبر هذا الإجراء تصعيداً خطيراً. وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي بالفعل بالثأر، في الوقت الذي حث فيه زعيم جماعة «حزب الله»، حسن نصر الله، الميليشيات الشيعية في العراق بعدم السماح بأن يمر مقتل سليماني سدى.
اليوم، توجد أمام إيران الكثير من الخيارات للانتقام. مثلاً، لدى الميليشيات التابعة لها عدد كاف من الصواريخ لتحويل السفارة الأميركية في بغداد إلى حطام. كما أن عملاءها قادرون على تنفيذ عمليات اختطاف وتفجيرات انتحارية وصور أخرى من الفوضى ضد أهداف أميركية أضعف في أوروبا. كما أن «حزب الله»، الميليشيا والحزب السياسي اللبناني الذي أسسته إيران في الثمانينات، يسيطر على بعض الشبكات داخل الولايات المتحدة.
ومع هذا، فإن هذا لا يعني أن الهجوم الأميركي غير مبرر. في الواقع، ذكر البيان الصادر عن «البنتاغون»، الخميس، أن سليماني: «عمد بنشاط إلى تطوير خطط لمهاجمة دبلوماسيين وعسكريين أميركيين في العراق وبمختلف أرجاء المنطقة. وهدفت هذه الضربة إلى ردع أي خطط إيرانية لشن هجمات مستقبلية».
وعليه، فإنه من المضلل القول بأن مقتل سليماني بداية حرب أميركية جديدة ضد إيران، وإنما الأكثر دقة أن نقول إنه يبدأ فصلاً جديداً في حرب مشتعلة بالفعل. وحتى هذا الأسبوع، جرى شن هذه الحرب من خلال عقوبات اقتصادية ضد النظام الإيراني وهجمات دقيقة ضد عملائها. الآن، قضى ترمب على الخط الفاصل بين إيران وعملائها.
وبذلك، فقد كانت الضربة الأخيرة صفعة ليس لشبكة الميليشيات والإرهابيين الذين تسيطر عليهم إيران فحسب، وإنما كذلك صفعة لحملة التنمر التي يشنها النظام الإيراني ضد المجتمع الدولي بأسره لإجباره على التعامل معه كدولة طبيعية. في الواقع، إيران دولة يديرها إرهابيون، وترمب محق في تعامله معها على هذا النحو.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
TT
رسالة ترمب القاتلة لنظام إيران الإرهابي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة