تكهن كثير من الناس خلال الشهور الأخيرة بأن الحرب الأهلية السورية تشارف على فصول النهاية. ولكن على العكس من ذلك، كانت تلك التكهنات والمزاعم سابقة للغاية لأوانها، وتقلل كثيراً من أهمية جذور العنف الراهن والقادم. ورغم ذلك، فإن ديناميات القوة السائدة في الداخل السوري تتحرك صوب التغيير الحتمي من دون شك. وسواء اطلعنا إلى الكارثة المحتملة في إدلب، أو النفوذ المتراجع طردياً لقوى المعارضة في سوريا، أو الوضع المتغير أو ربما الغامض للولايات المتحدة، وتركيا، و«قوات سوريا الديمقراطية»، أو حالة التدهور الكبيرة للأمن في الجنوب السوري، فإن الأوضاع قد دخلت في خضم التحولات والتغيرات المهمة ذات الشأن.
ومن بين ديناميات القوة ذات الأهمية، التي لم يعرها كثيرون اهتماماً كافياً، كانت حالة التنافس الشديدة بين روسيا وإيران على صياغة وجه المستقبل السوري في السنوات المقبلة، وموضع كل منهما فيه. وفي حين أن دينامية التنافس الحقيقية ما بين طهران وموسكو لن ترقى أبداً إلى مستوى العداء المفتوح، فإنها بدأت في استلهام قدرها المعتبر من التأثير الحقيقي للغاية على التطورات الرئيسية للأزمة الراهنة، من مسارح الصراع النشط، إلى كيانات وهياكل الدولة، والسيطرة على الموارد، واحتمالات الصراع الداخلي لبسط الهيمنة على الأراضي السورية.
وفي جوهر الأمر، فإن دينامية التنافس تحركها آليات الندية وتباين المقاصد ما بين روسيا وإيران، بشأن بسط النفوذ على كافة أرجاء سوريا. وفي حين أن روسيا تسعى جاهدة لإعادة بناء الدولة السورية المنهارة وهياكلها الأساسية، مع تحديث أدوات السلطة الحكومية على كافة مقاليد القوة، تسعى إيران في الأثناء ذاتها إلى اختراق الداخل السوري عبر التسلل، وغرس الوجود الراسخ، مع بناء أذرع القوة العميقة الموازية الخاضعة لسلطانها الحصري. ينسجم هذان المساران المتباينان في حالة من الاتساق الباعث على الارتياح النسبي في أوج الصراع المسلح الراهن. لكن مع استمرار أعمال القتال وتشتت الانتباه إلى مواضع شتى، لم يعد هذان المساران يتسقان على منوال القبول السالف نفسه.
ومن أبرز أمثلة التنافس الراهن تلك الأنباء التي تتصل بشخصية رجل الأعمال السوري، ذائع الصيت وفاحش الثراء، رامي مخلوف، الذي جردته حكومة بشار الأسد من صلاحياته الكبيرة وامتيازاته الواسعة، إثر طرده خارج مؤسساته المالية النافذة: شركة «سوريا تل» للاتصالات، وجمعية «البستان». وفي حين أن التفاصيل الدقيقة والكاملة المتصلة بهذه التطورات لا تزال قيد الغموض والكتمان، فإنه يصعب على المرء تفويت الدور الروسي الفعال حيالها.
زعمت التقارير الإخبارية المعلنة أن روسيا قد أوعزت إلى الأسد بالتحول في مواجهة رامي مخلوف، عبر مطالبة النظام السوري بالديون الروسية الهائلة المستحقة، والتي تبلغ قيمتها نحو ثلاثة مليارات دولار، مع الإعلان الصريح أنه إن لم تكن دمشق في وضع يسمح لها بسداد المستحقات المالية الروسية، فلا بد من أن السيد مخلوف في وضع يسمح له بذلك.
الأهم من ذلك، قيمة رامي مخلوف التي لا تقدر بثمن لدى النظام الإيراني، وخدمته لطهران كعامل من أبرز عوامل تثبيت أقدامها في الداخل السوري، فضلاً عن كونه وسيطاً مهماً في عدد لا يُحصى من الصفقات التجارية في سوريا، بما في ذلك سيطرة إيران «تجارياً» على أحد الموانئ المطلة على البحر المتوسط في مدينة اللاذقية، إلى جانب كثير من عقود الاتصالات في عدد من المحافظات السورية. وقد صدرت الأوامر بإلغاء صفقة الميناء وإلغاء اتفاقيتين للاتصالات كانتا على وشك الإبرام. وجرى تهميش شبكة موسعة تضم ما لا يقل عن 30 شخصية على اتصال مباشر بالسيد مخلوف داخل مجتمع الأعمال السوري، وفي الأوساط السياسية والمحلية، وفي أروقة الجيش والاستخبارات، إذ صدرت القرارات بوضع كثير منهم قيد الإقامة الجبرية. وكانوا جميعاً يعملون بطريقة أو بأخرى في خدمة المصالح الإيرانية داخل سوريا.
وبعد فترة وجيزة من ظهور قصة رامي مخلوف على سطح الأحداث، كذلك كانت عملية إعادة تسمية واحدة من أكثر الوحدات القتالية المعروفة بولائها التام للنظام السوري في البلاد: «قوات النمر»، من كونها جناحاً شبه مستقل القيادة من استخبارات القوات الجوية السورية التابعة لـ«الشعبة 25 - مكافحة الإرهاب»، إلى كيان مركزي جديد تحت السيطرة المباشرة لوزارة الدفاع السورية، الخاضعة للتوجيهات الدفاعية الروسية. وفي الأثناء ذاتها، كان السيد مخلوف من أكبر الداعمين الماليين لـ«قوات النمر» السورية، غير أن تلك العلاقات الاستثمارية قد ولت وتلاشت الآن. إذ يخدم إدماج «قوات النمر» ضمن الجهاز الدفاعي الأساسي في الدولة المصالح الروسية في البلاد، على اعتبار الإشادة الرسمية العلنية في موسكو بالعميد سهيل الحسن قائد «قوات النمر»، والجهود السابقة من جانب وزير الدفاع السوري الجنرال علي أيوب الموالي لروسيا، على صعيد تجريد الصفة العسكرية عن المشهد العسكري وشبه العسكري في سوريا.
على نطاق أوسع، وبالإضافة إلى الجهود المستمرة التي تبذلها روسيا للتأثير على عمليات صنع القرار السياسي على مستوى الوزارات السورية في دمشق، لعبت روسيا دوراً بارزاً في عملية إعادة التنظيم الشاملة لأجهزة الأمن السورية في يوليو (تموز) من العام الجاري، والتي تضمنت الفروع الأربعة الرئيسية لأجهزة الاستخبارات الوطنية السورية التي خضعت لإدارات وقيادات جديدة. ومن غير المستغرب، أن الشخصيات الأربعة التي صدرت الأوامر بترقيتها – وهم: الجنرال غسان إسماعيل، والجنرال حسام لوقا، والجنرال ناصر ديب، والجنرال ناصر العلي - يحظون بعلاقات وثيقة مع الجيش الروسي، ولم يكن لأي منهم توجه أو انتماء عام نحو إيران أو مصالحها في الداخل السوري.
ومنذ ربيع العام الحالي، صارت الأولويات الأمنية المتباينة بين الأجندتين الروسية والإيرانية أكثر وضوحاً وجلاء عن ذي قبل. ففي حين أن روسيا أنفقت واستثمرت الطاقات العسكرية والدبلوماسية الهائلة بشأن مصير محافظة إدلب، تجاهلت إيران على نحو شبه كامل الصراع الدائر في المحافظة نفسها، وتبدى ذلك في عدم تقديمها أي قوات أو إمدادات لوجستية هناك. في هذه الأثناء، ضاعفت إيران من استثماراتها في أواسط وشرقي سوريا، تلك المناطق التي توقفت روسيا عن الانتباه إليها منذ اندلاع أزمة إدلب. ومع بذل بعض الطاقات لاحتواء تنظيم «داعش» الإرهابي هناك، تتركز الطاقات والجهود الإيرانية الرئيسية في أواسط وشرقي البلاد على تشييد القواعد العسكرية الكبيرة، وبناء المعابر الحدودية الجديدة مع العراق، ومحاولة «غرس الذات» ثقافياً داخل المعقل العربي السني المحافظ، مع استمرار جهود تجنيد السكان المحليين بهدف الانضمام إلى مصفوفة الميليشيات الشيعية الموالية لطهران هناك.
على صعيد واحد، من الطبيعي وفق الوضع الراهن، في مرحلة «ما بعد الصراع»، أن نشهد تآكلاً واضحاً لحالة الوحدة التي جمعت المصالح الروسية والإيرانية ذات مرة في الداخل السوري، مما يكشف عن اختلافات وخلافات استراتيجية كبيرة وعميقة بين الجانبين. وجدير بالتأكيد مرة أخرى، أن اشتداد كثافة المنافسة بين الجانبين لا يستوي، أو يوازي، أو يسفر عن اندلاع أعمال العنف العدائية بينهما في خاتمة المطاف. وهذا محال من الناحية النظرية. ومع ذلك، فإن وجود حالة التنافس الروسية الإيرانية الواسعة، مع اليد العليا الروسية في الشأن الداخلي السوري، عندما يتعلق الأمر بعواقب ذلك على وضعية الدولة الروسية وتخصيص مواردها الوطنية، فإن الأمر قد تكون له تداعياته السياسية الوخيمة.
وفي منطقة الشرق الأوسط، لا يزال الجدال مفتوحاً بشأن إعادة التفاعل مع نظام الأسد من عدمه. بالنسبة إلى الدول التي ترتأي إعادة التفاعل مع النظام السوري – مثل الإمارات العربية المتحدة، التي أرسلت وفداً كبيراً إلى العاصمة دمشق للمشاركة في المعرض التجاري الدولي الذي انعقد هناك مؤخراً – فإن حالة التنافس الروسية مع إيران تبدو وكأنها تبرر ذلك التحول؛ لأن المضي قدماً على هذا المسار يزيد من الضغوط الممارسة على إيران. وعلى نحو مماثل، قد يكون المقصود من الأفعال الروسية، على نحو جزئي، البعث برسالة إلى واشنطن، مفادها أن انتصار بشار الأسد في سوريا يجب ألا يُترجم بالضرورة على أنه انتصار لإيران.
ومع ذلك، فإن الواقع الراهن لا محيد عنه بحال: تواصل إيران المصارعة داخل حلبة مختلفة تماماً، ضمن إطار زمني طويل الأمد للغاية. وما دامت هناك عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات الخاضعة لسلطان طهران في سوريا، بعض منها يعمل داخل الدولة السورية والبعض الآخر يعمل على خط التوازي معها، فلا وجود لسيناريو تتقاطع فيه المصالح مع طهران حتى الآن. وعلى نحو مماثل أيضاً، وبعد نجاح إيران في إيجاد ذراع أمنية تنطلق من طهران إلى بغداد، ثم دمشق، ثم بيروت، ومنها إلى فلسطين، فقد حققت الجمهورية الإسلامية حتى الآن انتصاراً استراتيجياً يصعب الرجوع عنه.
وبصرف النظر تماماً عما تتمخض عنه الأحداث في قابل الأيام، فإن إيران لن تغادر سوريا بسهولة، ولا يوجد طرف سياسي فاعل وقادر على الإطاحة بالنفوذ الإيراني، أو تجاوز المكاسب الإيرانية غير المتناظرة المحققة في سوريا. ولأجل إعادة التفاعل مع نظام الأسد في خضم حالة الوضع الراهن القائمة، لن يتطلب الأمر مجرد الاعتراف بالوجود الإيراني الحقيقي هناك، وإنما العمل كذلك على ترسيخه.
*خاص بـ«الشرق الأوسط»