علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

جمجمة استعدائية

يعلل الأخ العزيز سليمان الخراشي –كما نقلنا عنه في المقال السابق– الاهتمام ببعث فكر القصيمي وبعث كتبه مجدداً بسببين هما:
السبب الأول، مناسبة وفاته. وهذا السبب سبب متهافت لأن عبد الله القصيمي متوفى في 9-1-1996، والملف الصحافي الذي أعده الصحافي والكاتب محمد السيف عن القصيمي في موقع «إيلاف» الإلكتروني والملف الصحافي الآخر الذي أعده عنه هاشم الجحدلي في جريدة «عكاظ» لم يعدّاه بعد أيام أو أسبوع أو شهر من يوم وفاته بل أعدّاه بعد مضيّ خمس سنوات على وفاته.
السبب الآخر، هو أن القصيمي «ينتمي إلى المملكة العربية السعودية، فحالته مستغرَب وقوعها في هذه البلاد (بلاد الحرمين) التي زاد تسليط الضوء عليها بعد أحداث الخليج –تقريباً– فأصحبت محط أنظار كثيرين مختلفين في نظرتهم ومشربهم». وهذا السبب متهافت من وجوه عدة.
إن سليمان وفق صياغته للفقرة التي ذكر فيها السبب الأول وشرح فيها السبب الآخر قد ألزم نفسه منطقاً ومنطوقاً، بأن السبب الأول متقدم زمنياً على السبب الآخر. وعليه أسأله: أيُّ أحداث خليج –وهذه التسمية في استعمالها تنصرف إلى نشوب حرب في هذه المنطقة الجغرافية– حدثت ما بين سنة وفاة القصيمي وسنة إعداد محمد السيف وهاشم الجحدلي ملفيهما الصحافي عنه، وهي سنة 2002؟!
ولو قال إنها كانت هفوة في صياغة الفقرة، وإنه لم يكن يعني بها أن السبب الأول متقدم زمنياً على السبب الآخر، سأسأله: أيُّ أحداث خليج تقصد؛ هل تقصد بها حرب الخليج الأولى (22 سبتمبر «أيلول» 1980 – 20 أغسطس «آب» 1988) أم تقصد بها حرب الخليج الثانية (7 أغسطس 1990 – 17 يناير «كانون الثاني» 1991)؟!
ولن أسأله: هل يقصد بها حرب الخليج الثالثة (20 مارس «آذار» 2003 – 1 مايو «أيار» 2003)، لأنه نوّرني –نوّر الله عليه- من خلال التعليل الذي تضمنه السبب الآخر الذي هو بمثابة روزنامة جديدة في تحقيب أحداث الخليج، أن هذه الحرب حدثت بعد أن وقع الفأس على الرأس ولات ساعة مندم، وذلك حين بدأ محمد السيف –سامحه الله– نشر أول حلقة من ملفه الصحافي عن القصيمي قبل حدوث تلك الحرب بسنة وشهرين وأحد عشر يوماً، وحين بدأ هاشم الجحدلي –سامحه الله أيضاً– نشر أول حلقة من ملفه الصحافي قبل حدوثها بثلاثة أشهر وأربعة عشر يوماً!
لكني سأسأله: في أي الحربين «ازداد تسليط الضوء على السعودية، بلاد الحرمين، وأصبحت محط أنظار كثيرين مختلفين في نظرتهم ومشربهم»: أبعد حرب الخليج الأولى أم بعد حرب الخليج الثانية؟!
اتّقِ الله يا أخي العزيز سليمان!
إنه لتاريخ متأخر جداً هذا الذي حددته لبداية تسليط الضوء على السعودية!
وهذا الضوء وإن لم ينص على ذلك هو ضوء دولي وليس ضوءاً إقليمياً. وهنا سأسأله: ما شأن كون السعودية، بلاد الحرمين، وكون القصيمي سعودياً بهذا التاريخ المتأخر جداً، ليكون دافعاً بعد حرب الخليج الأولى أو بعد حرب الخليج الثانية لبعث فكر القصيمي وبعث كتبه؟!
وسأردف السؤال السابق بسؤال أخير: ألا يرى أن التاريخ الذي حدده مع أنه تاريخ متأخر جداً إلا أن ثمة سنوات طويلة تفصله عن تاريخَي نشر محمد السيف وهاشم الجحدلي ملفيهما الصحافي عن القصيمي؟!
إن ما جعل روزنامة الأخ العزيز سليمان الخراشي مختلة في سجلها الزمني إلى هذا الحد، هو أنه لم يُرد أن يسمّي الحادث الذي يقصده باسمه. هذا الحادث هو هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، فهذا الحادث هو –بالفعل- حدث بعد وفاة القصيمي وقبيل تاريخَي نشر محمد السيف وهاشم الجحدلي ملفيهما عن القصيمي.
أما لماذا لم يُرد أن يسمي ذلك الحادث باسمه، ولماذا لجأ إلى تسمية مموهة ومضللة، وهي أحداث الخليج، فلأن ما تسبب به هي فكريات الحركات الإسلامية ومنظوماتها الفقهية حول مسألة الجهاد الإسلامي.
إن الأخ العزيز سليمان الخراشي، وهو يشرح السبب العارض كان يجمجم في كلماته. فهو لم يُبِن إن كان تسليط الضوء على السعودية تسليط ضوء دولي أم إقليمي. ولم يُبن إن كان تسليط الضوء عليها من منظور عدائي أم من منظور تعرّفي أم من منظور إيجابي. ولم يقل لنا من هم هؤلاء الكثيرون المختلفون في نظرتهم ومشربهم الذين كانت السعودية محط أنظارهم. والذين يعرفون عنه ويعرفون فيه حدة فكره الديني والمذهبي المفاصل الذي لا يعترف بشرعية الاختلاف الديني وشرعية الاختلاف المذهبي وشرعية الاختلاف الثقافي والآيديولوجي وشرعية الخلاف والاختلاف عموماً، سيستعجبون من استعماله عبارة لينة لدنة كـ«المختلفون في نظرتهم ومشربهم» في هذا السياق.
إنه لم يُبن أن تسليط الضوء على السعودية كان دولياً، لأنه إنْ أبان ذلك فسيشي بالحادث الذي لا يريد أن يسميه باسمه. ولم يُبن أن تسليط الضوء هذا -كما يعتقد- هو حصراً من زاوية هجومية عدائية، ويقوم به هؤلاء الكثيرون الذين هم أعداء دينيون وأعداء لا دينيين وأعداء مذهبيون وأعداء -هذا إن كانوا من أبناء طائفته السنية-ـ منحرفون في أدبهم وثقافتهم وفكرهم، وأن هذا العداء يستهدف السعودية لسبب واحد فقط، وهي أن السعودية بلاد الحرمين!
اضطر سليمان إلى هذا الجمجمة لأنه قد وضع ملفَّي محمد السيف وهاشم الجحدلي الصحافيين عن القصيمي في إطار مؤامرة على السعودية، ولأنه أراد أن يستعدي الديني والسياسي عليهما بطريقة ملفوفة حتى لا يتورط بتوجيه اتهام واضح وظاهر إليهما بأنهما أداتان لتلك المؤامرة التي اخترعها.
وكان من ضمن جمجمته الاستعدائية الملفوفة قوله عن كون القصيمي سعودياً: «فحالته مستغرَب وقوعها في هذه البلاد (بلاد الحرمين)».
ورداً على قوله هذا أقول: إن القصيمي لم يولد ولم ينشأ في مبتدأ حياته لا في مكة ولا في المدينة. فهو مولود في قرية خَبْ الحلوة. وعاش إلى سن العاشرة بين خَبْ الحلوة وقرية الشِّقة. وخَبْ الحلوة والشِّقة ضاحيتان من ضواحي مدينة بريدة. وعاش وهو في سن الحادية عشرة في مدينة الرياض لمدة عام. وترك الرياض إلى مدينة الشارقة وعمره اثنا عشر عاماً ليعيش في كنف والده الذي كان يعمل في تجارة اللؤلؤ وإماماً لمسجد هناك ويعاني من ضيق ذات اليد. وفي أثناء إقامته في الشارقة توفي والده، وكان يدرس في مدرسة دينية داخلية. وفي هذه المدرسة الدينية الداخلية التقاه تاجر لؤلؤ من الحجم المتوسط من منطقة نجد، اسمه عبد العزيز بن راشد فأُعجب بتحصيله في العلم الديني وصادقه. وكان هذا الرجل متديناً ويطمح أن يكون من طلاب العلم الديني. ولأنه كان معه ما يكفيه من المال قرر أن يتفرغ لتحقيق هذا الطموح. واتفق مع صديقه الجديد الذي يصغره بسنوات كثيرة على أن يرافقه في رحلة طلب العلم الديني. في البداية ذهبا إلى الزبير في جنوب العراق ليدرسا في مدرسة جديدة أنشأها ويديرها ويدرّس فيها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وسكنا في مسجد «البراهيم»، ولم يمكثا في الزبير سوى ثلاثة أشهر، لأن الشيخ نصحهما بالتوجه إلى مدرسة دينية داخلية يقوم عليها جماعة أهل الحديث في دلهي، اسمها مدرسة الرحمانية، تدرّس العلوم الدينية باللغة العربية وتُعنى بتدريس علم الحديث. وأعطاهما خطاب توصية مكّنهما من الانضمام إلى هذه المدرسة والسكن فيها. درسا في هذه المدرسة لمدة عامين ولم يواصلا الدراسة فيها، لأن عبد العزيز بن راشد تعثر في الدراسة لأنه بدأ طلب العلم الديني في سن متأخرة، ولأنه وجد صعوبة في تلقي العلم من مدرسي المدرسة الذين كانوا يتحدثون لغة عربية مكسّرة غمض عليه فهمها. وهناك أمر آخر، وهو أنه أحس بعزلة ووحشة مع المحيط الهندي العام، لأنه لا يعرف لغة غير العربية. لذا قرر أن يقطع دراسته في تلك المدرسة وتبعه القصيمي في قراره هذا. فهو –كما يقول القصيمي– القائد وهو التابع، وسافرا إلى بغداد لطلب الالتحاق بالمدرسة الأعظمية.
في بغداد التقى هذان الرفيقان مع عبد الله بن يابس وهو طالب علم ديني وَفَد من نجد إلى بغداد لطلب الالتحاق بالمدرسة الأعظمية. تقدم الثلاثة إلى اختبار القبول فنجح القصيمي ونجح بن يابس في اختبار القبول ورسب ابن راشد فيه. ولأنه رسب فيه ولم ييأس من تحقيق طموحه أعلمهما أنه سيسافر إلى القاهرة ليدرس في جامعة الأزهر ولما أعلمهما بهذا صرفا النظر عن الدراسة في المدرسة الأعظمية التي قُبلا فيها وعزما على السفر معه إلى القاهرة للدراسة في جامع الأزهر.
أمضى الثلاثة فترة في بغداد ثم سافروا إلى القاهرة عن طريق دمشق عام 1927، وكان عمر القصيمي حينها تسعة عشر عاماً. القصيمي أقام في القاهرة ومن ثم في حلوان من ذلك العام إلى عام وفاته. وأقام في بيروت من عام 1954 إلى عام 1956، لما نفاه جمال عبد الناصر إلى هناك بطلب من الحكومة اليمنية.
القصيمي منذ غادر السعودية وعمره اثنا عشر عاماً لم يرَ السعودية بعدها سوى مرة واحدة. وهذه المرة الواحدة حصلت في تاريخ قديم. هذا التاريخ القديم هو ما بين آخر عام 1944 وأول عام 1945، ففي هذا التاريخ زار السعودية واستغرقت زيارته هذه ثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وفي هذه الزيارة أدى فريضة الحج. وكانت هي حجته اليتيمة.
هذه المعلومات على نحو عام يعرفها سليمان الخراشي وقد كتب بعضها في ترجمته للقصيمي في كتابه لكنه في حديثه عن سبب تأليفه له في مقدمة الكتاب تعامى عنها، وأقحم السعودية في موضوع شيق ومثير، هو يمقته، وهو كتابة سيرة القصيمي بحياد. تعامى عنها لأنه كان في وارد الاستعداء الديني والاستعداء السياسي.
إن حالة القصيمي تُستغرب عند سليمان الخراشي وعند أصحاب التيار الإسلامي السنّي بعمومه سواء في العالم العربي أو في العالم الإسلامي، ليس من كونه ينتمي إلى السعودية، بلاد الحرمين، وإنما من كونه عالم دين سلفياً. وهي العبارة التي كان يجب أن يكتبها عن القصيمي، ليكون صادقاً في استغرابه.
وأختم الرد على تعليله التآمري المخترع بالإعلان عن هذه المعلومة وهي: أن بعض الصحافيين والمثقفين السعوديين في أول التسعينات كانوا يحثون على القيام بعمل لقاء صحافي موسع مع عبد الله القصيمي تسجل فيه سيرته الشخصية وقد عُرض عليَّ هذا العمل، وكنت أنوي أن أصنعه في جريدة «الشرق الأوسط»، لكن حالت دون ذلك أسباب.
وبعد سنوات من وفاته ومن دون أن يعلم محمد السيف وهاشم الجحدلي أن هذا العمل كان معروضاً عليَّ، نفَّذا هذا العمل وصنعا ملفاً صحافياً عن القصيمي.
وللحديث بقية.