داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

«الزورخانة»... استعراضات هزلية وهزيلة

على الرغم من أن النظام الشاهنشاهي في إيران شهد محاكاة عمياء للمجتمعات الغربية المتقدمة حضارياً وفكرياً وإنسانياً، فإن إيران عادت إلى القرون الوسطى فجأة مع مجيء الملالي في عام 1979، وتغيرت المفاهيم السائدة في المجتمع بعد «الثورة الإسلامية» هناك، ليس للأفضل كما توقع بعض الإيرانيين وإنما إلى الأسوأ.
وطفت على السطح النبرة العنصرية الفارسية التي خفتت واختفت إلى حد ما في النظام الملكي السابق. ومع اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية في العام الأول لنظام الملالي تمسك الحكام الجدد بطوق الطائفية لخوض الحرب طوال ثماني سنوات.
وكانت هذه السنوات الثقيلة الدامية العصر الذهبي لازدهار الخرافات والأساطير بعد أن اكتشف الخميني ومن معه أن جُرُبَهم خاوية من أي منجزات حقيقية كانوا وعدوا بها الشعوب الإيرانية في أيام المعارضة. فوجد الشارع الإيراني نفسه غارقاً في مفاهيم وأساطير غامضة ودولة تقوم على خرافات ودجل وشعوذة واستعراضات هزلية وهزيلة للعضلات.
من المثقفين الإيرانيين البارزين الذين رصدوا بشجاعة هذا التراجع الدرامي، الفيلسوف والباحث الإيراني داريوش شايغان (1935 - 2018) أستاذ الفلسفة المقارنة في جامعة السوربون الفرنسية. وقد تضمن كتابه «النفس المبتورة» الصادر في عام 1991 نكتة سوداء شاعت في إيران بعد الثورة مفادها أن «رجلاً إيرانياً مغترباً عاد إلى طهران بعد غياب عدة سنوات. وما إن وصل إلى المطار، حتى استقل سيارة أجرة إلى بيته، وفي منتصف الطريق طلب الرجل من السائق التوقف أمام بائع سجائر، فسأله: لماذا التوقف يا سيدي؟ فرد الراكب: لأشتري سجائر. فقال السائق: السجائر لم تعد تباع في الأكشاك، إنها تباع في الحسينية! واستغرب الراكب وقال: لكن الحسينية ... ليست لذلك. فقال السائق: هذا كان في الماضي، أما اليوم فمن يُرِد الصلاة فليذهب إلى الجامعة! فسأله الراكب باستغراب: وأين تجرى الدراسات إذن؟ فرد السائق: يا سيدي الكريم... الدراسات تجرى في السجن! وعاد الراكب يسأل: ولكن السجن هو المكان الذي يُودَع فيه المجرمون؟ فقال السائق: هذا خطأ، فالمجرمون، يا سيدي الكريم، يودعون في الحكومة! وسأله الراكب: ماذا يفعلون في الحكومة؟ ورد السائق: يتولون مناصب وزارية ونيابية وقيادية في الحكومة!».
ويعلق الباحث الإيراني على هذه النكتة الرمزية فيقول: «جميع الوظائف تبدلت في هذه النكتة، فالدين تحول إلى تجارة رابحة، والجامعة إلى حسينيات، والسجن صار ملاذاً لأساتذة الجامعات، والحكومة للمجرمين». حقاً «ما كان في وسع أحد أن ينقل هذا الفصام الثقافي كما نقله بدقة هذا المثقف المتميز» كما قالت مجلة «الإكسبريس» الفرنسية عن داريوش شايغان.
ولا غرابة في أن نطبق النكتة الإيرانية على الحالة العراقية الراهنة لأن الحالتين «في الهوا سوا»، فهذه النكتة تصف أيضاً حال العراق بعد الاحتلالين الأميركي والإيراني. ربما الاختلاف الوحيد في العراق هو أن قسماً كبيراً من أساتذة الجامعات والعلماء جرى تشريدهم إلى المنافي أو تصفيتهم. لذلك فإن الدراسات لا تجري في السجن فقط كما هو الأمر في الحالة الإيرانية، وإنما في القبر أو في المهجر أيضاً. فكل شيء صار بالمقلوب على الطريقة الإيرانية.
منذ عشر سنوات عادت إلى المشهد العراقي رياضة «الزورخانة» الإيرانية لتنمية العضلات التي كان بعض العراقيين يمارسونها قبل أكثر من قرن. وهي رياضة إيرانية طائفية مائة في المائة، ويعني اسمها «بيت القوة»، ويقرأ خلالها أحد المغنين المتخصصين مقامات مذهبية على إيقاعات الدفوف والطبلة والطاسات المعدنية الصاخبة. وهي خليط من استعراض العضلات وقدرة التحمل والدروشة والألعاب السويدية والمصارعة الصينية واليابانية امتدت بحكم الجيرة إلى العراق والكويت. لكنها اندثرت فيهما تدريجياً منذ الستينات، وتم إقفال القاعات التي كانت تجرى فيها هذه النزالات والطقوس، إلى أن دخل الإيرانيون إلى بغداد بعد الاحتلال الأميركي فعادت اللعبة الفارسية القديمة إلى المسرح السياسي العراقي والملعب الرياضي، واعتبروها من الألعاب الأولمبية وشكلوا لها منتخباً من المحتمل أن يكون بين أعضائه بعض الوزراء والنواب والملالي وقادة «الحشد الشعبي»، ويُشرف قاسم سليماني على تنظيم مبارياتها سواء بين المشاركين في العملية السياسية، أو بين الأحزاب والميليشيات الطائفية، أو بين العراق وإيران من هذه الجهة وأميركا من تلك الجهة.
وبعض من يتابع تهديدات وتصريحات المسؤولين الإيرانيين وقادة «فيلق القدس» و«الحرس الثوري» عن إغلاق الخليج العربي إذا مُنعت بلادهم من تصدير النفط، وضرب المصالح الأميركية والأسطول الأميركي... إلى آخر التهديدات الفارغة، تقفز إلى ذهنه رياضة «الزورخانة»، أقوال بلا تنفيذ وحركات بلا فعل. وانتقلت هذه التهديدات إلى ألسِنَة قادة «الحشد الشعبي» في العراق وزعماء عصابات الميليشيات، وكل تصريحاتهم النارية «هواء في شبك». كما انتقلت العدوى إلى القوات الأميركية في سوريا والعراق. فتارة نسمع عن انسحاب أميركي من سوريا، وتارة نقرأ عن تأجيل ذلك أو إعادة الانتشار في العراق أو تعزيز القوات. ترمب وصل. ترمب غادر....
إنه أمر يتسق تماماً مع السياسة الفاشلة التي تعتمد على «الزورخانة» سياسياً وطائفياً، ولا علاقة لها بالرياضة ولا العضلات سواء في العراق أو إيران... وأكاد أقول أو أميركا.