تركي الدخيل
TT

من أجل يوم يزيد على 24 ساعة

يوماً ما ستتوقف الساعة عن الدوران، ولن يكون على هذه الأرض، من يدوّن أحداث الساعة الأخيرة من الزمن. ربما لا تكون ساعة، بل قد تكون دقيقة، أو أجزاء من الثانية. يومها، لن يملّ القارئ من نصوص نهاية العام، والبكاء على اللبن المسكوب، والوقت الذي هرب من أيدينا؛ الوقت الذي سيكون حينها، مضروباً في الصفر، ولا أحد يستطيع هزيمة الصفر في جدول الضرب!
سيأخذ نهر الحياة مجراه، فليتوقف الباكي على الماضي، وليمسك بتلابيب وقته، ولينظر في ساعة يده، فإن شَعُر أنها تُسِّرع من إحساسه بالوقت، وتصيبه بالقلق، فليضع ساعة رملية على مكتبه، أو ليراقب الشمس وهي تشرق، أو القمر وهو يميل باتجاه رحلة أخرى. المهم أن نملك الزمن... ولن يملك الزمنَ أحد!
ستبقى أبعد أمنياتنا، وضع الزمن في المسار الذي يخدم أحلامنا وأهدافنا. لست مثالياً، ولا عائداً من القمر، كي أُنَظِّر عليكم عن أهمية الوقت، لكني أنذر نفسي قبلكم، فقد مضى العام قبل فترة وجيزة، بأيامه وساعاته، وأكثر من خسره، الذين لا يعرفون ما يريدون من فكرة الوقت. أما عامنا هذا، فهو عام سعيد، لمن يضعون خططاً واضحة، ليكونوا على أهبة الاستعداد لتنفيذ ما خططوا له، وكأن تلك الخطط، تحفزهم للاستمتاع بشروق شمس يوم جديد، يتكون من 24 ساعة.
لا بد من الإشارة، إلى مفهوم، قد لا يعجب بعضاً، وهو أني أؤمن بحق الجسد في الإرهاق والتعب والملل، ما لم تسيطر عليك هذه الثالوث فيحكمك أكثر مما تحكمه.
لن أقول إن صفاء ذهن أينشتاين، هو ما جعله يلتقط النسبية، لكني أقول إن المنضبطين في جداولهم، العارفين حقيقة تسارع الوقت، وإمكانية تحويله إلى إنجاز بإتقان، يدركون أن ساعات الاسترخاء قد تصنع فكرة، لم تكن لتلمع في ذهنك لو لم تحصل على راحة الجسد، كي يأخذ الذهن حقه في إعادة ترتيب أفكاره، وحين تأتي تلك الفكرة الهاربة، فإنها قد تختصر على الجاد المجد، كثيراً من وقت سيصرفه في عمل لا يقارن - ثمناً - بقيمة الفكرة، الخارجة من رحم الاسترخاء.
إذاً ثمة استرخاء يمارسه الجادون، وهناك استرخاء الكسالى، الذي لا يخرج منه صاحبه إلا بالتنبلة.
أرجوكم لا تظنوا أن العبد الفقير لله، يدعو للكسل! فأنا أنافح عن سويعات يستحقها كل مجتهد متعب، مهما كان الجدول مزدحماً.
أعجبتني عبارة قالها الصديق الجراح، د. عبد العزيز الخريجي، في محاضرة له عن الوقت، اعتبر فيها أن التخلص من العادات السيئة، أصعب، وأهم، في آن واحد، من اكتساب عادات جيدة.
ثم تحدث بشفافية أن من عيوبه، الحرص على المفاصلة في البيع والشراء، ونقل هذا الاعتراف لبروفيسور جراحة العظام المشهور د. سالم الزهراني. يقول الخريجي: كنت أحاور البروفيسور سالم حول قدرته العجيبة على الجمع بين كونه جراحاً شهيراً، ورجل أعمال ناجحاً، لكنه حوّر السؤال لمعرفته بعلتي مع السباكين فسألني: إذا وجدت سباكاً أغلى بعشرة ريالات من الآخرين، ماذا تفعل؟
أجاب الخريجي: سأجوب الرياض كلها، حتى أجد سعراً أرخص. رد البروفيسور الزهراني بهدوء: إذا فرضنا أنك ستكسب عشرين ريالاً، في النصف ساعة التي ستقضيها بحثاً عن سباك أرخص، هل تعرف كم تستغرق عملية الرباط الصليبي؟ أجاب الخريجي: نصف ساعة. باغته العارف متسائلاً: وكم قيمة أجرة الجراح في تلك النصف؟ قال: خمسة عشر ألف ريال، فبهت الدكتور الخريجي، وتعلم درساً، وعلمنا إياه.
التساؤل الذي يساورني بإلحاح، كما غيري: هل اليوم 24 ساعة فعلاً؟!
كيف ينجز رجل مثل د. غازي القصيبي، رحمه الله، كل تلك الأشياء، بينما الكثير من مجايليه تلقوا تعليماً موازياً لتعليمه، وأتيحت لهم فرص مشابهة، لكنه التهمها، فملأ الدنيا وشغل الناس!
كان رجلاً يعرف قيمة الأعشار والأرباع، وفخامة ساعات الفراغ، حينما تصرف جيداً في مكانها.
أعود للدكتور الخريجي، فهو اعتبر الإرهاق من أقدم عوائق الإنجاز، لكنه وصف لنا أفضل مضادات الإرهاق ألا وهي الرغبة، والشغف!
لا شيء يعدل الرغبة والشغف - على تنوع دوافعهما وأسبابهما – من أجل هزيمة التعب والإرهاق الداخلي، فالرغبة تحيد الإرهاق، وتجعله مطواعاً مع الوقت. وعليه، فلا شيء يستحق الاستغلال مثل الرغبة، وإذا صادفت الرغبة التوقيت الصحيح، فذلك تعريف الإنجاز المقترن بالإتقان.
لا يخيف المنجزين الراغبين في رؤية شيء يتحقق أمام أعينهم، سوى خذلان الوقت، أو استسلامه للصفر الذي لا يُهزم. لذلك لم يكن مدهشاً بالنسبة لي أن أسمع جواب الأمير محمد بن سلمان، عن سؤالٍ عمَّا يمكن أن يوقفه، قائلاً: «لن يوقفني سوى الموت». بمعنى آخر، وليسمح لي الأمير، كأنه يقول: أعرف ما ينتظرني، وأرى شغفي يستيقظ أمامي كل صباح، لكن يحق لمثلي أن يخشى من قصر الوقت. كل المنجزين يتقاسمون مع محمد بن سلمان هذا الخوف المبرَّر.
بقيت أزمة تقتل الإنجاز، وتحبط استغلال الوقت، هي التأجيل!
كنت ذات يوم أتحدث مع الشيخ عبد الله بن زايد، وزير خارجية الإمارات، فأخبرته أن زميلاً فجع بوفاة أخيه. طلب مني رقم الرجل لتعزيته. قلت له يمكن أن تؤجل تعزيتك الهاتفية لغد. ابتسم وقال لي عبارة لافتة: إذا أردت ألا تنجز أمراً... أجله!