لم يكن أحدٌ ممن تولوا الرئاسة أكثر استعداداً لهذا المنصب من جورج إتش دبليو بوش. وشغل الرئيس الراحل مناصب عدة، فقد كان رئيس بعثتنا إلى الصين، وسفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، ومن ثم نائب الرئيس. وقبل عمله في الفرع التنفيذي للحكومة، كان عضواً منتخباً في الكونغرس. كان يعرف عن فصل السلطات، وأعطتني خبرته منظوراً لكيفية عمل الحكم.
لقد كان سياسياً ورجل دولة وقائداً، وكنت محظوظاً بما يكفي لأشهد على توليه كل تلك المناصب. وكنت أسافر معه عندما كان نائباً للرئيس، وذلك بصفتي عضواً في فريق مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. ورافقته في رحلة إلى الشرق الأوسط في صيف عام 1986. لم يحب الرئيس السابق الذهاب في رحلة رمزية بحت. فكعادته، أراد أن يكون لرحلته غاية. وعندما اقترحت عليه استغلال زيارته لإصدار بيان بالمبادئ المشتركة حول السلام بين إسرائيل ومصر والأردن، قبل اقتراحي رغم اعتراض جميع كبار مساعدي السياسة الخارجية في الرحلة والذين شعروا أنه هدفٌ لا يمكن تحقيقه. وكانت حجتهم أن الأردن لن ينضم إلى هذا البيان في حين كانت لا تزال مصر منبوذة حديثاً من قبل الدول العربية الأخرى لأنها توصلت إلى اتفاق سلامٍ مع إسرائيل. فلم يريدوا خوض هذه المخاطرة وتحمل عواقب فشلها.
أما وجهة نظري فكانت استغلال فرصة تغيير رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيليين في فترة حكومة الوحدة الوطنية الإسرائيلية (مع قيام شمعون بيريز بتسليم منصبه كرئيس للوزراء إلى إسحق شامير). ولأن الرئيس المصري حينها حسني مبارك والملك حسين كانا يدركان أن بيريز أكثر مرونة من شامير، كانت مصلحتهما تصب في إرساء المبادئ التي من شأنها أن تقربهم من شامير فور توليه منصبه الجديد وكان لدى بيريز سبب لإنشاء مبادئ توجيهية تسمح له بالدفع بعملية السلام كونه وزيراً للخارجية. قبل بوش وجهة نظري وقال: «دعونا ننفذها». ونجحنا وقتها في إصدار ذاك البيان.
ورأيته عدة مرات بعد الرحلة وطلب مني أن أترك منصبي في مجلس الأمن القومي وأصبح مستشار السياسة الخارجية في حملته الرئاسية. وبالفعل، انضممت إلى الحملة في نفس الوقت الذي تولاها جيمس بيكر. وعلى الرغم من أنني كنت مع الحزب الديمقراطي، إلا أنني أحببت بوش وبيكر. وبعد فوز بوش، انضممت إلى بيكر في وزارة الخارجية. وبصفتي أحد مساعدي بيكر المقربين، كنت أرى الرئيس بوش في كثيرٍ من الأحيان أثناء تعاملنا مع قضايا تتعلق بالاتحاد السوفياتي وأوروبا والشرق الأوسط. وكان يظهر بوش بمظهر الحذر، ولكن ذلك لا يعكس من هو بالفعل. وهو بالفعل كان حذراً «وحكيماً» على حد قوله. ولكن الحكمة تتطلب اتخاذ مخاطر محسوبة، كما فعل في نشر بيان المبادئ المشتركة بين مصر وإسرائيل والأردن عندما كان الرهان الآمن لزيارته عام 1986 كنائب للرئيس مجرد احتفالية. وكانت أيضاً خطوة اتخاذ قرار حشد العالم لتوحيد ألمانيا في حلف الناتو بعد سقوط جدار برلين، محفوفة بالمخاطر، خاصة أن السوفيات والبريطانيين والفرنسيين كانوا متأكدين أنه ستتم معارضتهم، وبالفعل شعر الخبراء حول أوروبا في الإدارة الأميركية والمثقفون في الخارج بأن هذه الخطوة ببساطة غير قابلة للتحقيق ولا يجب الاستمرار فيها.
إلّا أن بوش رأى الخطر الأكبر من عدم وجود ألمانيا موحدة في حلف الناتو؛ فقد شعر أن توحيدها كان أمراً لا بد منه لأن الألمان أرادوا تحقيق ذلك وأبدوا استياءهم من الذين سعوا إلى منع حصوله.
فوجود ألمانيا موحدة خارج الحلف الأطلسي قد يسبب تنافساً بين الكتل وألمانيا، وإن لم تكن ألمانيا في حلف الناتو ستشعر أن عليها تأمين نفسها بنفسها، وهذا سيقودها إلى الشعور بأن عليها الحصول على قدرة نووية مستقلة. وكان ذلك أخطر بكثير من خطر عدم القدرة على التغلب على المعارضة السوفياتية والبريطانية والفرنسية.
نجح بوش وبيكر في الخروج بألمانيا موحدة في حلف الناتو لأنهما وضعا القضية داخل إطار وعملا بشكلٍ مكثف لمعالجة المشاكل التي كانت تواجه جميع الأطراف والتقيا أو كانا على اتصال مع غورباتشوف وثاتشر وميتران - بالإضافة إلى كول وغينشر – وطمأناهم وقدما لهم الحوافز عند الضرورة وأوضحا لهم في الوقت نفسه أن هذه النتيجة حتمية. وكانت ممارستهما لسياسة الحكم استثنائية في جعل أهدافنا تبدو مقبولة لجميع الأطراف. وهنا كانت أميركا تقود وتدير وتوجه عملية من البداية إلى النهاية.
وفعل بوش وبيكر الأمر نفسه في تشكيل ائتلاف حرب الخليج. فقد تطلب الأمر براعة ومعرفة بكيفية بناء تحالف من الدول المتنوعة ذات الاحتياجات المختلفة للغاية، والأهم من ذلك فهم ما سيتطلبه الحفاظ عليه. ونجحا مجدداً في تحقيق هذا الهدف لأنهما أخذا زمام المبادرة ونجحا في جعل المجتمع الدولي يقبل بالأهداف التي حددتها الولايات المتحدة.
قاد بوش، ولكنه فهم أيضاً أن أميركا كانت أكثر فعالية عندما تقاسم المجتمع الدولي أهدافها، واكتسبت أهدافنا شرعية أوسع نتيجة لذلك. لقد جعل بوش أميركا أولاً ليس من خلال الإعلان عنها ولكن من خلال ضمان أن يرى الآخرون فائدة دعم أهدافنا واكتشافها معنا.
وساعد تحقيق ذلك حقيقة أن كلمته كانت موثوقاً بها. فعندما قال إن عدوان صدام حسين لن يدوم، تصرف وقتها وأثبت ذلك. وأخبر الملك فهد أن قواتنا ستوجد في المملكة العربية السعودية لإجبار جيش صدام على الخروج من الكويت. وعندما قاوم بوش الضغوط للذهاب إلى بغداد، كانت كثيرة ضده، لأن ذلك لم يكن أحد الأهداف التي حشد العالم لدعمها ولكنه لم يتراجع عن تنفيذ كلمته.
كان بوش زعيماً بمعنى الكلمة، وكان يعرف كيف يتفاعل مع التغيرات الكاسحة جيوسياسياً إلّا أنه ظل متواضعاً. والأكيد أنه وضع أميركا أولاً كأمة دون التغاضي عن مسؤولياتنا تجاه الآخرين. لقد كان مؤمناً بالمعايير العالمية وقام بردة فعل على عدوان صدام حسين لأنه رأى أننا كنا على أعتاب حقبة جديدة وأراد أن تتصف هذه الحقبة بحكم القانون لا بقانون الغاب.
لقد جسد بوش قيم الحشمة والتواضع والشجاعة والتعاطف، وأظهر ذلك في طريقة تعامله مع القادة الدوليين وكذلك أولئك الذين عملوا لديه. وكانت طريقته في تقدير وشكر كل من عمل معه أسطورية. وأعرب عن اعتقاده بأن الخدمة العامة شرف وواجب، وكان شرفاً لي أني عملت معه.
*خاص بـ {الشرق الأوسط}