د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

مأزق التقدم البشري الآن

أن البشرية تتقدم أصبحت حقيقة يمكن ملاحظتها وقياسها؛ فالإنسان أصبح أطول عمراً، وأفضل صحة، وأكثر قدرة على الاتصال والتواصل، وهكذا مؤشرات. وفيما عدا منطقة الشرق الأوسط التي عانت كثيراً خلال السنوات الأخيرة، فإن دول العالم عاشت ربما أطول فترات غياب الحروب بين الدول، وباتت المجاعة أمراً نادراً، وإذا حدث فإن الدنيا كلها تتجمع لإنقاذ من جاع. الأمراض المستعصية جرى تحديها، وحتى السرطان الذي قيل عنه إنه «إمبراطور» الأمراض بات ممكناً، إما الشفاء لأنواع منه، أو التعامل معه بحيث يمكن للمريض العيش حياة طبيعية. ببساطة، فإن الحروب والمجاعة والأوبئة باتت أقل حدوثاً، ومعها تقدمت شعوب ودول، وخلال العقدين الماضيين خرج ملياران من البشر من دائرة الفقر إلى ساحة الستر، جاء أغلبهم من الهند والصين. أن يقال إن ذلك يشكل تقدماً مادياً لا يعبر عن مدى السعادة لدى البشر، أو أن القيم الأخلاقية تراجعت، فتلك أمور عاطفية ونفسية يصعب قياسها، ولا يوجد دليل حتى الآن أن الإنسان الأقل تقدماً أكثر سعادة وأفضل أخلاقاً، فالمرجح أن التعاسة أكثر، والفقر لا يعرف الرقي. وعلى أي الأحوال، فإن فكرة «التقدم» تظل تدور حول أمرين: أولهما التقدم التكنولوجي الذي يمثل الآلة الدافعة للانتقال من حال إلى أخرى، وبخاصة مع شموله مجالات عدة في آن واحد؛ وثانيهما قدرة الإنسان على تنظيم هذا التقدم من خلال مؤسسات دولية ومحلية للتعامل مع التغيرات الكبيرة، والتقلصات التي تأتي من انقلاب الدنيا رأساً على عقب. هناك دائماً فجوة زمنية حرجة ما بين حدوث التقدم، وتطبيقه، وتجاوزه إلى تقدم آخر!
سبب إثارة هذه القضية في هذا المقام ثلاثة أمور تشكل مأزقاً للإنسانية، ولا يوجد حتى الآن طريق للخروج من هذا المأزق. أولها أن استمرار التقدم وتراكمه بات يهدد الكرة الأرضية ذاتها. وفي الحقيقة، فإن مثل هذا التهديد الشامل ليس الأول من نوعه، فقد سبق العالم «مالثوس» إلى القول إن الزيادات السكانية تتحرك بمتوالية تفوق تلك التي تأتي بها الموارد الغذائية، ومن ثم فإن «التقدم» سوف يعني كثرة الحروب وندرة الغذاء وذيوع المجاعة. لم يحدث ذلك بالطبع، بل إن دولاً مثل الصين والهند باتت مكتفية ذاتياً في الغذاء، بل وتقوم بالتصدير، وبات عدد البشر الذين يموتون من أمراض «السمنة» وزيادة الوزن أكبر من هؤلاء الذين يموتون بالمجاعة. وفي السبعينات من القرن الماضي، قام نادي روما عام 1974 استناداً إلى ما سمّاه صدمة البترول إلى القول، إن الموارد الطبيعية الأساسية بما فيها النفط سوف تتآكل إلى الدرجة التي لا تسد الحاجات الطبيعية للإنسان فتكون حروب، وكذلك التراجع في تلبية احتياجات البشر. مضت ستة عقود على ذلك زاد فيها إنتاج النفط وجاء معه الغاز، وباتت الطرق كلها مفتوحة على أنواع جديدة من الطاقة، وبدائل كثيرة للمواد الطبيعية. هذه المرة، فإن التهديد قائم للكرة الأرضية بسبب الاحتباس الحراري؛ وكان الظن أن اتفاقاً في باريس قد وضع حداً للمشكلة، لكن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق بات خروجاً لأكبر أسباب التلوث الحراري من المعاهدة التي تعالج المشكلة، فماذا يحدث عندما ينسحب المتقدمون من معالجة نتائج التقدم؟
المأزق الثاني أن مشروعية «التقدم» تقوم على قدرته على معالجة مشكلات ومعضلات البشر، ومع معرفة الخريطة الجينية للمخلوقات بات ممكناً حل الكثير من المشكلات المعوقة للتقدم البشري. وعن طريق تعديلات في الخريطة الجينية للبعوض بات ممكناً منع تكاثرها أو قيامها بحمل مرض الملاريا المنتشر في مناطق كثيرة من أفريقيا. وبمثل هذه الطريقة من المعالجة الجينية بات ممكناً زيادة نسبة البروتين في الحبوب، وكذلك قدرتها على مقاومة الجفاف؛ وبالطريقة نفسها معالجة عدد من أنواع السرطان التي تقوم فيها الخلايا السرطانية بالتحول لأشكال جديدة نتيجة العلاج الكيماوي. المأزق الذي يعيشه الإنسان هو عما إذا كان جائزاً إعادة كتابة الخريطة الجينية للإنسان حتى يمكن تجنب أحد الأمراض؟ القصة الأخيرة في هذا الموضوع كانت قيام العالم الصيني «هي جيانكوي» بإعادة تحرير الخريطة الجينية من خلال تكنولوجيا معروفة باسم «كرسبرـ كيس9» لكي يغير من جينات توأمين من الإناث. المسألة تبدو كما لو كانت نوعاً من «التطعيم» المبكر ضد مرض من الأمراض، لكنها في الواقع تفتح الباب على مصراعيه على ألا يصبح البشر بشراً بعد تغييرات كثيرة ممكنة للجينوم الإنساني. المسألة لقيت اعتراضاً عالمياً دفع الحكومة الصينية إلى وضع هذه المحاولات في حالة تجميد. لكن مأزق التقدم يظل قائماً، لأنه اقترب هذه المرة من جوهر الإنسان الذي بات تقدمه يحمل احتمالاً لإنهاء وجوده.
المأزق الثالث له صلة قوية بالعلاقات الدولية وما يترتب عليها من حرب أو سلام. فالثابت تاريخياً أن التقدم لا يمكن احتواؤه داخل حدود بعينها؛ فهو ينتقل من دولة إلى أخرى، وفي ظل ما جرى من تقدم في وسائل الانتقال فإن انتقاله أصبح أكثر سرعة من أي وقت مضى، ومن ثم فإنه يغير من توازنات القوى. مأزق «ثيوسيددس» التاريخي كما جاء في كتاب المفكر الاستراتيجي اليوناني، أن زيادة قوة «أثينا» كانت السبب الذي أدى إلى شن إسبرطة هجوماً عليها، وقيام ما عرف بحرب «البلوبنيز» التي ربما كانت من أشهر الحروب في التاريخ. الآن بات لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل التصاعد السريع في قوة الصين، وتقدمها التكنولوجي المتسارع حتى في المجالات التي تصورت واشنطن أن لها فيها تفوقاً أبدياً في مجالات الفضاء والإلكترونيات والجينات. هناك بالطبع الدافع الصيني الذاتي لكي تكون القوة العظمى الأولى في العالم، لكن هذا الدافع يساعده وجود 350 ألف طالب صيني يدرسون في الولايات المتحدة، وأغلبهم في المجالات التي تتفوق فيها أميركا، وفي أفضل جامعاتها مثل هارفارد وبرنستون وييل. ما يحدث حالياً هو أن الولايات المتحدة تتهم الصين بالتجسس الصناعي، واستجلاب المعارف التكنولوجية الأميركية من خلال هؤلاء الطلبة، ومن ثم بدأت في فرض القيود على مجيئهم إلى الولايات المتحدة. وإذا أضفنا إلى ذلك «الحرب التجارية» الجارية فإن «عقدة ثيوسيددس» تبدأ تدريجياً في التجسد، وتعيد إلى الأذهان، ليس فقط ما جرى بين «أثينا» و«إسبرطة»، لكن ما جرى أيضاً بين بريطانيا وألمانيا عندما انتقلت الثورة الصناعية الأولى من لندن إلى برلين فكانت حربان عالميتان.
ثلاثة مآزق كبرى توجه التقدم البشري، أولها يهدد الكرة الأرضية كلها؛ وثانيها يهدد الإنسان وكونه بشراً؛ وثالثها يهدد النظام الدولي كله؛ فهل يحلها فكرة التقدم ذاتها كما فعلت من قبل؟ كما لكل أمر هناك متفائلون ومتشائمون، لكن هذه قضية أخرى على أي حال!.