في الأشهر الأخيرة، بات من الواضح بشكل متزايد أن المجتمع الدولي قد غادر موقعه في مراقبة ورصد انتصار نظام بشار الأسد بطيء الوتيرة والمنتظم الذي لا يزال يعمل بمنتهى القسوة داخل سوريا. ولم ينبس أحد ولو بكلمة واحدة أثناء قيام النظام السوري، والمدعوم بكل قوة من جانب روسيا وإيران، بتفكيك اتفاق خفض التصعيد الجديد، وهذه المرة في جنوب البلاد. ورغم قائمة جرائم الحرب الكبيرة والموثقة للنظام السوري الحاكم، وسلسلة التهديدات الأمنية من الدرجة الثانية المنطلقة من داخل حدود البلاد، فإن التراخي الدولي يحرك الرؤية قصيرة النظر بصورة خطيرة بشأن «إنهاء الأزمة السورية».
وهذه الرؤية – التي طُرحت في السر والعلن من قبل الحكومات في الولايات المتحدة، ومن خلال الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط – تستند إلى أساس واحد: أن غزو قوات الأسد للأراضي التي تسيطر عليها المعارضة يساوي الانتصار السياسي، وأن روسيا هي أفضل آمالنا لإرساء الاستقرار فيما بات يُعرف الآن بسوريا ما بعد الصراع. وفي حقيقة الأمر، فإن الجذور الأساسية للصراع المهلك في سوريا لا تزال على مستوى الشدة نفسه كما كانت عليه الأوضاع في عام 2011، كما أن المصالح التي تدفع إلى تدخل الأطراف الأجنبية في الأزمة صارت أكثر أهمية وإلحاحاً من أي وقت مضى.
وعلى النقيض من بيانات النصر المتعددة التي صدرت منذ أواخر عام 2017 وحتى الآن، لا يزال تنظيم داعش الإرهابي أبعد ما يكون عن الهزيمة والسقوط. ورغم أنه لا يسيطر في الوقت الحالي إلا على مساحة لا تتجاوز 1 إلى 2 في المائة من الأراضي التي كان يحتفظ بها من قبل في أواخر عام 2014، فإن عناصر التنظيم الإرهابي لا تزال ناشطة عسكرياً في أكثر من منطقة من مناطق سوريا وبصورة لافتة، ويعكس التنظيم إشارات قوية على التعافي وإعادة تنظيم الصفوف في العراق. والدفع جدلاً بأننا قد حققنا الانتصار في هذه المعركة ليس إلا إساءة فهم لطبيعة التنظيم وما يحرك استمرار وجوده وتهديداته. والأسوأ من ذلك، أن الصراع العسكري هو المرحلة السهلة والسريعة من هذا التحدي – الاستقرار، والتعافي، وإعادة البناء هي المهمات الكبرى والأكثر إجهاداً وتكلفة وأهمية في المستقبل. وحتى الآن، لم يقترب المجتمع الدولي ولو قيد أنملة من الضرورة الملحة لاستكمال تلك المهام بفعالية.
وبصرف النظر تماماً عن تهديدات «داعش» القائمة؛ فإن الوجود المستمر لتنظيم «القاعدة» وغيره من الحركات المتطرفة المماثلة؛ وتشريد ما لا يقل عن نصف سكان البلاد، وتدمير الجانب الأكبر من البنية التحتية الوطنية، والأكثر من ذلك، القضية الوحيدة التي يبدو أنها توحد الكثير من أطراف المجتمع الدولي بشأن سوريا، هي قضية إيران. وصفت الكثير من حكومات الشرق الأوسط التوسع العسكري الإيراني في سوريا بأنه التهديد الأمني الأهم على أمن المنطقة واستقرارها. وأشارت إدارة الرئيس ترمب من واشنطن في أكثر من مناسبة إلى أن إيران في حاجة إلى «السحق»، و«التراجع» من سوريا وانسحاب شبكة ميليشياتها الموالية من هناك بالكلية.
ورغم وحدة التقييمات البادية بشأن التهديدات الإيرانية، لم تفعل أي دولة أي شيء ذي مغزى حقيقي لتحدي الموقف الإيراني المتقدم في سوريا. وحتى الآن، رأينا كمّاً هائلاً من الأقوال، لكن مع القليل للغاية من الأفعال الحقيقية. والأسوأ مما تقدم، هو الانسحاب الجماعي للاستثمارات التي تتحدى مصداقية نظام بشار الأسد والتمكين الناجم عن ذلك من توسيع التحالف المناصر للأسد في سوريا، الذي يعني تعزيز موقف إيران القوي هناك يوماً تلو آخر. وفي اعتراف محتمل بهذا الواقع المثير للقلق، يبدو أن الحكومة الأميركية وحلفاءها – بما في ذلك إسرائيل – يتجهون صوب الأمل المشترك بأن روسيا تملك الإرادة والمقدرة على احتواء الوجود الإيراني داخل سوريا، أو تقييده وتقليصه، أو الحد منه تماماً في خاتمة المطاف.
وهذا هو عين الوهم. وليست هناك من آفاق لنجاح تلك المساعي أبداً. رغبة الرئيس دونالد ترمب الواضحة في الانسحاب من سوريا – مدفوعة في مقامها الأول بالرغبة الملحة في توفير الأموال – وتسليم السلطة هناك بالكامل إلى روسيا، ستؤدي إلى تعزيز النفوذ الإيراني في البلاد، وليس الحد من نفوذها هناك كما يُشاع. وفي واقع الأمر، هناك حالة من التوحد تجمع بين موسكو وطهران بشأن سوريا وتستند إلى هدف استراتيجي واحد؛ حماية سلطة بشار الأسد في دمشق. ولن تخاطر أي من موسكو وطهران بخرق تحالفهما في سوريا، خشية من تهديد أولويات بشار الأسد وإتاحة الفرصة للاعبين المنافسين لإساءة استغلالها. ولن يغير من ذلك الواقع شيئاً.
ويمكن القول، إن إسرائيل هي الأكثر خشية من الوجود الإيراني في سوريا، ورغم ذلك، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قد ضاعف ثقته في روسيا كضامن للأمن والاستقرار في سوريا. والعزم الروسي على حماية أمن إسرائيل هو عزم أصيل لا لبس فيه، لكنه لن يكون كذلك على حساب أهداف روسيا الأوسع داخل سوريا. وفي الحقيقة، وعلى الرغم من التأكيدات الروسية المتعددة، فقد لعبت إيران وشبكة ميليشياتها دوراً محورياً وأساسياً في العمليات الهجومية الأخيرة في جنوب البلاد، بالغطاء الجوي اللازم من سلاح الجو الروسي، لدرجة أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية قد أسقطت طائرة روسية مسيرة بلا طيار كانت تحلق باتجاه مرتفعات الجولان.
وتصر إسرائيل على أنها فرضت، وباستمرار، خطوطها الحمراء على إيران داخل سوريا. ومع ذلك، ومن خلال الحد من تقديرات الخطوط الحمراء من أجل التعامل مع التهديدات العاجلة قصيرة الأجل الناشئة من سوريا، فقد فشلت تل أبيب في منع إيران من بناء التهديد الاستراتيجي الكبير حيالها هناك. إذا أُخبر رئيس الوزراء الإسرائيلي في عام 2011 بما سيبدو عليه الوجود الإيراني في سوريا بحلول منتصف عام 2018، لكانت ردة فعله هي الصدمة القوية والعزم الأكيد على ضرورة القيام بكل ما هو ضروري ولازم للحيلولة دون تحقق هذا السيناريو الراهن.
ينبغي علينا جميعاً تعلم هذا الدرس الآن، قبل أن يفوت الأوان بالفعل. ليس من المنطقي تماماً أن نعلن اليوم أن إيران تشكل التهديد الأكبر للأمن الدولي، في حين أننا نمنحها أكبر انتصار تمكنت من تحقيقه في سوريا على صحن من فضة.
ومع ذلك، فإن أداء الرئيس ترمب في قمة هلسنكي، من شأنه أن يضيف قدراً من الدينامية غير المتوقعة إلى هذه المعادلة المزرية. وبعد مجابهته ردود الفعل العدائية، بما في ذلك من أقرب مواليه داخل الحزب الجمهوري، تراجع ترمب مرة أخرى واتخذ لهجة أكثر صرامة واتهامية حيال روسيا والدور الذي قامت به عبر تدخلها في الانتخابات الأميركية لعام 2016.
وفي خضم هذه البيئة الشائكة، فإن صفقة مفاجئة مع روسيا – والتي سوف يتصورها أغلب الناس على أنها استسلام أميركي صريح لموسكو – من شأنها أن تمثل خطراً سياسياً كبيراً على مستقبل الرئيس الأميركي. ومن الممكن أن تتيح هذه الدينامية الجديدة فرصة ما للآخرين كي يعيدوا التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الالتزام إزاء سوريا، صد المنافسة الروسية، ومواجهة واحتواء التهديدات الإيرانية. لكن لا ينبغي علينا افتراض أي شيء في المرحلة الراهنة؛ إذ إن الرئيس ترمب هو تجسيد حي وقائم لعدم المقدرة على التنبؤ بما هو قادم.
* باحث في «معهد
الشرق الأوسط» في واشنطن
- خاص بـ«الشرق الأوسط»
7:52 دقيقه
TT
هل بوتين قادر على احتواء إيران؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة