حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

هلسنكي والصراع الخفي!

تعليقات الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي جاءت خلال المؤتمر الصحافي الذي تلا قمته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتي جاءت مدافعة عن الرئيس الروسي من كل الاتهامات الموجهة إليه، بل واتهم فيها الولايات المتحدة نفسها (علماً أنه سبق أن وصف حلفاءه في حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي بالخصوم قبل ذلك) ووصف روسيا بالمنافس الجيد، وبعد أعاصير من الدهشة والنقد العنيف لتعليقات ترمب من قبل الإعلام الغربي، اضطر الرئيس الأميركي لتعديل تصريحه بقوله إن ما قاله كان زلة لسان وإنه نسي التوضيح واستخدم وسيلة نفي النفي، فجاء التصريح بالطريقة التي جاء بها. ولكن هذا الموقف ساهم في دعم نظرية ترمب هو مرشح روسيا الذي نجحت في توصيله إلى سدة البيت الأبيض بالتدخل الإلكتروني المؤثر في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، ومساهمة الروس في «القضاء» سياسياً على هيلاري كلينتون كمرشح. والمؤمنون بنظرية المؤامرة يعتقدون أن هذا مجرد «فصل» في الصراع الاستخباراتي الكبير بين الغرب والروس.
في عام 1963 استفاق الغرب على صفعة شديدة من الاتحاد السوفياتي عندما أعلن كيم فيلبي الضابط البريطاني الكبير في الاستخبارات البريطانية انشقاقه ولجوءه إلى الاتحاد السوفياتي بعد أن اعترف بعد ذلك أنه كان جاسوساً لهم وكشف لهم عن أسرار صنفت بعد ذلك بأنها كانت في «غاية الخطورة والأهمية». هذه الحادثة كانت الملهمة الأهم لأشهر كاتب في أدب القصة الجاسوسية جون لوكاريه في قصته الأشهر «الجاسوس الذي جاء من الصقيع» واستخدم نفس البطل لروايات تالية ناجحة بعد ذلك. وأصحاب نظرية المؤامرة يعتقدون أن رد الغرب كان مدوياً، فهم نجحوا في «زرع» رجلهم الأهم والذي سيصنع التاريخ وقد نجح في ذلك، والمعني هنا هو ميخائيل غورباتشوف الذي جاء بعد أن شاخت القيادة في الاتحاد السوفياتي، فكان هذا الأصغر سناً ومع زوجته الحسناء، واستقبله الغرب استقبال الكبار وقالت في استقباله رئيسة الوزراء البريطانية وقتها مارغريت ثاتشر قولتها الشهيرة: «إننا نستطيع العمل سوياً». وقدم غورباتشوف للعالم مبادرته الإصلاحية «غلاسنوست» و«بريسترويكا» ولم تمضِ فترة طويلة إلا وكان الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وسور برلين يهوي كبيت من ورق.
دخلت روسيا في أزمات سياسية وحرمان اقتصادي وانكماش شديد لقوتها، وعايش فلاديمير بوتين كل هذه الأزمات في جهاز الاستخبارات السوفياتية المعروف بالـ«كي جي بي» ومن بعدها في الاستخبارات الروسية. شاهد بوتين بأم عينه خسارات الروس والسوفيات المتتالية في أفغانستان والشيشان ومناطق النفوذ الأخرى، والتدخل في أوروبا الشرقية وأوكرانيا وجورجيا وسوريا وليبيا، وهي مناطق محسوبة للروس في الأمن القومي ومفهومه، وبالتالي قرر الروس «رد الجميل» للغرب عموماً ولأميركا تحديداً. الروس صرحوا مراراً بأن الاتحاد الأوروبي ككتلة موحدة لا يخدم مصالحها، ولذلك ليس بسر أنهم يدعمون الأحزاب السياسية في أكثر من دولة أوروبية التي تدعو إلى الانفصال عن السوق الأوروبية. أيضاً تعتبر روسيا حلف الأطلسي (الناتو) عنصر قلق بالنسبة لها وعنصر عدم استقرار، ولذلك كانت تصريحات ترمب «المعادية» لحلفائه في الاتحاد الأوروبي و«الناتو» مؤكدة تماماً لتوجهات أصحاب نظرية المؤامرة.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أدلة تشير وبقوة إلى دور روسي في التأثير على نتائج البريكست التي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. هدف بوتين الأهم هو إظهار النظام الأميركي أنه «مخترق» وقابل «للفساد والإفساد» بشراء الذمم وأنه «مسخ وأضحوكة» حتى لا يتبناه أحد في بلاده ولا من حلفائه. ولكن ما فات على بوتين تذكره أن النظام الأميركي هو نظام مؤسسات وليس نظام أفراد، والخطأ يتم إصلاحه بالمصارحة والنقد والمكاشفة منعاً لحدوثه مجدداً على عكس روسيا حيث يبقى أثر الحكم لفرد واحد فقط.
الصراع الاستخباراتي أهم من التنافس السياسي والاقتصادي لأنهما صناديق سوداء، وروسيا تعلم أنها لا تستطيع منافسة أميركا اقتصادياً على الرغم من ثقلها في مجال النفط والغاز والذهب والمعادن، فإن شركاتها وقدراتها محدودة ولذلك تلجأ لإشغال أميركا بقضايا منهكة.
لم تنته الفصول المثيرة في الصراع بين روسيا وأميركا. هلسنكي كانت فصلاً من الفصول ليس إلا.