فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

في يوم تكريم اللغة العربية.. اليتيمة التي فقدت قاموسها

سيكون الثامن عشر من هذا الشهر يوما عالميا للغة العربية، الذي أقرته الهيئة الاستشارية لتنمية الثقافية العربية (أرابيا).. وهذا اليوم يصادف الذكرى السادسة والثلاثين لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبار اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية لها، ولكل المنظمات الدولية التابعة لها. وسيكون المحور الرئيس لهذا اليوم دور الإعلام في تقوية أو إضعاف اللغة العربية، وخصوصا الإعلام المرئي، وهل أسهم الإعلام الجديد، والمقصود به وسائل الاتصال الاجتماعية، في «إعادة» الشباب العربي إلى لغته العربية»؟
التساؤل هذا هو اعتراف ضمني بابتعاد الشباب عن هذه اللغة، مما يستوجب «إعادته إليها»، إذا كان ذلك ممكنا عبر وسائل الاتصال الاجتماعي. ونعتقد أن الجواب، ونرجو أن لا نبدو متشائمين، سلبي تماما، وهي حقيقة يعرفها الجميع، وخصوصا مجامع اللغة العربية والمختصين، من دون أن يفعلوا شيئا، بل لا يستطيعون ذلك.
السؤال الصحيح يجب أن يكون مقلوبا: كيف ساعد الإعلام المرئي في أغلبه، و«الإعلام الجديد» على تغريب اللغة ليس عن أهلها فحسب، بل عن نفسها أيضا. ويمكن أن نزيد على ذلك، الإعلام المكتوب أيضا إلى حد ما.
ونعتقد أن السبب الأعمق لكل ذلك، هو أننا لا نملك منذ زمن طويل أية مرجعية لغوية. هذه المرجعية التي مثلتها يوما المجامع اللغوية العربية، والتي هي الآن في حالة موت سريري من دون إعلان. من يضبط، إذن، كل هذه الفوضى اللغوية العارمة؟ من يعيد «الشباب العربي إلى لغته»، أو بالأحرى، من يعيد اللغة العربية إلينا.. حية، متجددة؟
اللغة العربية، من دون اللغات الحية الكبرى كاللغة الإنجليزية والفرنسية على سبيل المثال، تبدو وكأنها لغة يتيمة. لقد فقدت حتى قاموسها منذ قرون! وأية لغة من دون قاموس شامل متجدد هي لغة مهددة بالموت عاجلا أو آجلا. لا يمكن التفكير بلغة حية متجددة كما الحياة، دون قاموسها الحي المتجدد معها. في كل سنة تقريبا تصدر طبعة جديدة من قاموس «لاروس» الفرنسي، الذي لم يكن سوى مشروع شخصي لبيير لاروس، لكنه لم يتوقف بموته، بل سرعان ما أصبح مؤسسة عامة، ثم مؤسسة وطنية قال عنها ميتران يوما إنها فخر فرنسا القومي، وتاج اللغة الفرنسية. ولا يقل فخر الإنجليز درجة عن ذلك بقاموسهم «أوكسفورد»، فاللغة الإنجليزية هي قاموس «أوكسفورد»، كما أن قاموس «أوكسفورد» هو اللغة الإنجليزية، هذا القاموس الذي يتجدد كل عام، ليس لملاحقة تطورات أهله في كل مجالات الحياة، وإنما العالم أيضا. ولا يزال يغتني مع اغتناء هذه الحياة والعالم. وبذلك أصبح هذا القاموس، مثله مثل قاموس «لاروس» الفرنسي، حاجة حياتية للمثقفين والمتعلمين يعودون إليها لفهم المفردات الجديدة ومدلولاتها. وللأسف، لغتنا العربية لا تملك مثل هذا القاموس منذ «لسان العرب» لابن منظور في القرن الثالث عشر، وهو أشمل معاجم اللغة العربية وأكبرها حتى الآن.
لا يمكن لمجامعنا العربية، إذا كانت تستحق هذه التسمية حقا، وإذا كانت لا تزال تعتبر نفسها حارسة أمينة على هذه اللغة أن تستمر بلعب دور «شاهد ما شافش حاجة». إنها يمكن أن تتحول فعلا إلى مرجعية ثقافية إذا ما غيرت أساليب عملها، ونزلت من أبراجها إلى الشارع، حيث الحركة الفوارة التي تضخ يوميا عشرات المفردات الحياتية، والتي بحاجة إلى غربلتها، وتنظيمها، وبالتالي منحها أو عدم منحها حق الانتماء إلى شجرة العائلة اللغوية العربية. فعل كهذا، سيسهم إلى حد كبير بالحد باغتراب الشباب عن لغتهم الأم، وسيغني، بالمقابل، اللغة نفسها.. وإلا فهي إلى جفاف.
عندها فقط نستطيع أن نفاخر بلسان عرب حديث كما يفاخر الإنجليز بـ«أكسفوردهم»، والفرنسيون بـ«لاروسهم» (وعذرا من التعريب)!