أحمد محمود عجاج
TT

إشكاليات الديمقراطية ومعضلة «بريكست»

يبدو الحديث عن تصادم أو تنافر بين الديمقراطية الشعبية، والديمقراطية التمثيلية، وكأنه هرطقة سياسية، وذلك لأنهما في الظاهر يعبران عن إرادة الشعب! فكيف يتناقضان! لكنهما في الجوهر لا يعبران حقيقة عن «إرادة الشعب»! كيف ذلك؟
إن أفضل مثال على هذه الجدلية نراه في استفتاء الشعب البريطاني على قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ فعندما ظهرت نتائج هذا الاستفتاء، وبنسبة متقاربة جداً، سارع الرافضون للبقاء في الاتحاد الأوروبي للقول: لقد تكلم الشعب وحُسمت القضية! وصرخوا: يجب أن نخرج فوراً من الاتحاد الأوروبي، ومهما تكون النتائج!
إن عبارة «تكلم الشعب» بحد ذاتها مضللة، ولها وجهان: صادق، وكاذب. الوجه الصادق أن الناخبين حسموا بالفعل خيارهم، والوجه الكاذب أن الرافضين لا يمثلون كل الشعب، بل يمثلون تلك النسبة التي أيدت الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ فالمعارضون للخروج عددهم 16 مليوناً، والمؤيدون 17 مليون ناخب. هذا يعني أن 17 مليون ناخب فقط من عدد سكان بريطانيا البالغ 66 مليون شخص هم وحدهم الذين يريدون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي! وإذا ما قلنا إن عدد الذين يحق لهم الاقتراع 46 مليوناً، وإن الذين صوتوا منهم 33 مليون ناخب، والذين لم يفعلوا 13 مليوناً، وأضف إلى هؤلاء الذين أيدوا البقاء 16 مليوناً، فيصبح العدد 29 مليوناً.
هذا يعني أن الـ17 مليوناً الذين صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي، (بعملية حسابية) لا يمثلون الشعب، علاوة على أن قانون الاستفتاء لا يسمح لمن هم في سن 16 بالتصويت، رغم أن القانون العادي يعتبرهم بالغين قانونياً؛ السبب الذي كان وراء استبعاد الفئة العمرية تلك، هو أن الحكومة البريطانية تدرك أن الفئة تلك بأغلبيتها تؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي؛ لذلك فإن الاستفتاء، لو أضفنا الفئة العمرية تلك، لم يكن يمثل بأي وجه، كما يقول الداعون للخروج من الاتحاد الأوروبي «قرار الشعب»!
تعتبر الديمقراطية الشعبية (الاستفتاء) دستورياً متجاوزة للديمقراطية التمثيلية، لأن الأخيرة تتأسس على فكرة أن الشعب ينتخب ممثليه، وأن هؤلاء الممثلين المؤهلين يقررون ما يعتقدونه الأفضل للشعب. إن تقرير «الأفضل» لا يتأتى من عاطفة نائب، أو مزاجيته، بل يتأتى من مناقشة موضوعية بكل مستلزماتها (تقارير وأرقام وأبحاث، واستنتاجات) في البرلمان؛ وفي ضوء ذلك تتغير قناعات، ويحصل تقارب، أو تصادم، بين النواب في البرلمان، ويتوصلون في النهاية إلى تسوية معقولة مؤسسة على «معرفة واستنتاج وقناعات موضوعية». كمثال فإن الحكومة البريطانية طرحت مشروع قانون للخروج من الاتحاد الأوروبي يعطيها الحق بالتفاوض ،وتوقيع الاتفاق من دون الرجوع للبرلمان، بموجب تفويض الشعب أي الاستفتاء. لكن المحكمة الدستورية رأت أن الحكومة مجبرة على طرح الأمر على البرلمان، لنيل الموافقة على البدء بالتفاوض، وكذلك على نتيجة التفاوض. كما أن النواب، وبالتحديد نواب الحكومة من حزب المحافظين، رفضوا إعطاء وزراء الحكومة صلاحيات تخولهم تعديل أي قوانين كانت مطبقة مع الاتحاد الأوروبي قبل موافقتهم على اتفاق الحكومة البريطانية النهائي مع الاتحاد الأوروبي. يتبين بجلاء أن تفويض الشعب بالخروج تحول بفعل هذه المعارضة البرلمانية إلى كيفية الخروج: خروج ناعم أم خروج الخشن؟!
إن الخلاف بين هاتين الديمقراطيتين ليس، في جذرهما، حول «إرادة الشعب» لأنهما معترفان بها؛ خلافهما حول كيفية تنفيذ إرادة الشعب. المطالبون بالخروج الخشن يقولون إنهم قادرون على تطليق الاتحاد طلاقاً بائناً، وأن بريطانيا من دونه ستكون عظيمة؛ المطالبون بالخروج الناعم يقولون إن بريطانيا، بلا صفقة ارتباط ما مع الاتحاد، ستخسر، وتتضرر. الخلاف في البرلمان يدار بالنقاش والدليل والتقارير وبين أكفاء مؤهلين وخبراء ومجربين، بينما الخلاف في الاستفتاء يدار بين ناخبين متفاوتين في الذكاء والمعرفة، وتنقصهم الخبرة والتقارير، وتؤثر فيهم العواطف، وتحركهم الرغبات، ويخضعون للإعلام الذي تديره دوائر ذات مصالح.
الناخب في الاستفتاء تحركه العاطفة، ولا يدرك تداعيات صوته، بينما النائب يعرف التداعيات، ليس على البلاد، بل على مستقبله الشخصي. كمثال، الحكومة البريطانية في البرلمان تحظى بالأغلبية، ولديها القدرة أن تعاقب النائب من حزبها إذا صوت ضدها، أو تهدده بعدم ترشيحه للانتخابات، أو إعطائه مناصب وزارية، هذا يشكل ضغطاً كبيراً على النائب الذي يريد أن يصبح وزيراً، أو يريد أن يبقى نائباً. ومع ذلك فإن النائب الذي يفهم دوره يتجاوز تلك المغريات، ويتصرف وفق ضميره. وفي مثال التصويت على قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي صوت أكثر من سبعة نواب من حزب المحافظين ضد حكومتهم، وقالوا إنهم يضحون بمستقبلهم، ولن يضحوا بمستقبل من انتخبوهم ولا برفاهية وطنهم. هذا الضغط من الحكومة على النواب يضرب نظرية «الفصل بين السلطات» لأنه سيؤدي حال حصول الحكومة على الأغلبية في البرلمان إلى تسلمها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية؛ وبهما تصبح قادرة أن تستبد بالسلطة قانونياً!
الثابت أن الديمقراطية الشعبية (الاستفتاء) التي تخول للناخب حق توجيه البلاد، ومن دون المرور بالبرلمان، هي آلية مشوبة بالخطر، وتلجأ دائماً إليها أنظمة مستبدة، لأن المستبد ليس منفذاً لإرادة الشعب، بل يرى نفسه أنه يجسد الشعب؛ بمعنى أنهم يعرف ماذا يريد الشعب، ويعرف كيف يحقق ذلك! بالمقابل فإن الديمقراطية التمثيلية تعتبر الشعب ليس مؤهلاً للبت مباشرة في قضايا هامة وحساسة، وأن ممثليه المنتخبين هم الأكفاء، ومالكو المعرفة والتقنية للفصل في أمور كبرى وحساسة. ولكن تلك الديمقراطية التمثيلية هي الأخرى عرضة للضغوط الحزبية، وقد تنتهي بهيمنة الحزب واستبداده.
صدق رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرشل حين قال: «الديمقراطية أسوأ أشكال الحكم»، وأحسبه أخطأ حين قال: «لا يوجد أفضل منها».