بداية اقول إن الهم والألم واحد.. وطعن بغداد يوجع قلب القاهرة والرياض والرباط وكل بلاد العرب.
منذ أيام الصغر، أرى العراق منبرا عظيما للحضارة والتقدم والليبرالية.. ربما كنت أشعر في فترات بوجود غبن ما من السلطة تجاه مواطنيه، لكنه ظل دائما وأبدا بلدا عظيما في ناظري، وربما كان الحال كذلك لأغلب أبناء جلدتي وجيلي. كان العراق منبرا للحريات والمساواة رغم التباين في عناصر مكوناته. وكان في رؤيتنا وطنا عظيما في إمكانية احتوائه للأقليات والآخر المختلف.
كانت الموسيقى والأدب والفنون عشقا آخر أضاف إلى شغفي بالعراق، الذي لم يسعفني الحظ بزيارته.. لطالما حلقت في فضاء الطرب مع ناظم الغزالي وهو يصدح سائلا المليحة في الخمار الأسود.. ماذا فعلت بناسك متعبد؟ أو معاتبا من عَيّرته بالشيب وهو وقار، لائما وناصحا ليتها عيرت بما هو عار. ومن بنت الشلبية، إلى الخارجة من بيت أبوها، مرورا بسؤال الحلو منين جابك الله؟ هويت فنون العراق ومقاماته الموسيقية. وزاد اطلاعي على فنون وآداب بلد النهرين العريق، الذي كان يوما أرض حضارة عريقة ومقر الخلافة التي جمعت العرب تحت رايتها.
ورغم مشاركتي الكثير من العرب في نظرتهم إلى الرئيس الراحل صدام حسين كديكتاتور وربما كسفاح دموي؛ إلا أنني شاركت كثيرين أيضا خوفهم على العراق وتضامنهم مع شعبه عند اجتياح الولايات المتحدة لأراضيه.. ثم لم يمنعني الكبرياء من احترام صدام في آخر لحظات حياته حين استقبل مصيره كرجل، من دون أن يتعارض ذلك البتة مع نظرتي السابقة له كطاغية.
ومرت السنوات والعراق يعاني نزيفه واستنزافه.. في صمت حينا أو أنّات وهنّات هنا أو هناك. لكن الدولة ظلت صامدة بشكل أو بآخر، متحملة تفجيرات وصراعات وعمليات تمزق أحشاءها.
لكن الأيام الأخيرة، بما جاءت به أخبارها من اجتياح عصابة "داعش"، أو ما يطلق عليه "جورا" "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، لأراض ومدن ومساحات شاسعة، كان ذلك أكبر من قشة.. والدولة صارت في مهب الريح.
قوات داعش، المؤلفة من نحو خمسة الى عشرة آلاف مقاتل، بينهم عراقيون وعرب وأجانب، بحسب تقديرات خبراء ومحللين وزملاء مهنة مختصين، شاهدناها في صور وتقارير فيديوات وهي تدخل إلى القرى والمدن من دون مقاومة تذكر. يسيرون كما يسير الماء في أوديته ووديانه.
جيش العراق، مهما قيل عن تفتته وتشتته عقب اجتياح العراق واحتلاله في عام 2003، إلا أنه يبقى -ولو افتراضيا- جيشا نظاميا، كان يوما ما أحد أقوى جيوش الأرض بشهادة الخبراء.. لكنه اليوم يفر من وجه «داعش»، كما فر أهالي القرى يوما أمام المغول.
هذا الجيش، الذي لا بد أنه يملك تسليحا وعتادا، مهما قيل عن ضعفه وقدمه وسوء حالته، إلا أنه يشمل طائرات ومروحيات ودبابات وآليات ومجنزرات ومدافع وغيرها، يهرب تاركا أسلحته أمام عصابة من الرجال على عربات مكشوفة حاملين مدافع، أغلبها آلية، وربما بينها بعض مضادات الدروع أو الطائرات.
لا يحتاج الأمر الى مختص أو خبير عسكري لكي يفتي بأن عقيدة الجيوش تحظر ترك السلاح سليما للعدو.. فسوف يطاردك ويقتلك برصاصاتك. لكن هذا ما حدث وشاهدناه أخيرا في مدن العراق.
لا أكاد أخال أن المجندين من أبناء العراق فعلوها عن إرادة شخصية.. فتكرار الأمر في أغلب المعسكرات يشي بأن الوضع أكبر وأعمق من ذلك. لا أتهم أحدا بعينه، لأني غير مطلع أو غير خبير بتفاصيل الأوضاع هناك.. لكن "رائحة كريهة ما" تتصاعد.
كمواطن عربي، وكإنسان قبل كل شيء، أقول لكل الإخوة أنقذوا العراق قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه.. الأمر لا يحتمل تفتتا، ولا أن تباع دولة أمام أعيننا بينما يخرسنا الصمت.
وكمواطن مصري، ورغم أن مصر تحتاج حاليا إلى بث حيوية في شرايينها الاقتصادية الناضبة.. إلا أن الامر ربما يستحق اقتسام لقمة العيش. يا إخوتنا ممن تنظرون إلى الوقوف مع شقيقتكم مصر.. رجاء، أنظروا بعينكم الأخرى إلى شقيقكم العراق قبل فوات الأوان، وقبل أن لا يجدي ندم.
9:28 دقيقه
TT
لا تخذلوا أرض النهرين
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة