عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

قانون لحماية الطلاب من أنفسهم

لأول مرة تلجأ حكومة في بريطانيا إلى إصدار قانون يجبر إدارات الجامعات على حماية حرية التعبير ويعرض الجامعة للعقاب إذا منعت أي محاضرة أو وسيلة للتعبير عن الرأي بحرية.
لائحة جديدة قدمها جو جونسون، وزير الجامعات والعلوم والبحوث والابتكارات (المقابلة لوزارة التعليم العالي)، وهي وزارة تحتية ضمن قسم المعارف الوزاري (كلمتا office وdepartment في البيروقراطية البريطانية تعنيان وزارة ضخمة تشمل عدة وزارات تحتية)، ووزارة المعارف Department For Education (والمعارف مفهوم سياسي، إداري ثقافي أكثر شمولا من «التعليم»)، وزارة من أجل المعرفة والتعليم (لاحظ كلمة «من أجل» أو «نحو» وهي حرف وصل في الإنجليزية) أي أن عمل الوزارة (أو المكتب الوزاري) هي خطط وجهود واستراتيجية تدفع بالتلاميذ والمجتمع نحو التعليم المعرفي.
وزارة المعارف تشمل خمس وزارات تحتية يترأس كل منها وزير أو وزيرة، وهي وزارة الأطفال والأسرة، ووزارة المرأة والمساواة، ووزارة المهارات والتدريب المهني، ووزارة الحفاظ على مستويات المدارس واستراتيجية المساواة، ووزارة الجامعات والعلوم والبحوث والابتكارات.
ومعذرة للاستطالة في شرح التفاصيل، والهدف إيضاح أن وزارة المعارف في بريطانيا تخضع لمفهوم متطور عن مسؤولية الحكومة المنتخبة تجاه المواطنين والمجتمع.
وهنا يمارس التعليم، بمفهوم المعارف لا «التربية»، بهدف الرقي بالكيان المعرفي للمجتمع ذهنيا وثقافيا وإنسانيا.
واستراتيجية الوزارة تعتمد سياسة رعاية ذهنية ومعرفية وتطويرية للفرد من الطفل والأسرة، مروراً بالمدارس بمراحلها المختلفة، والتدريب المهني وإعداد المهارات، حتى مرحلة التعليم الجامعي التي يصل فيها الفرد إلى مستوى العلوم والبحوث التي تؤدي إلى الابتكارات والاختراعات برعاية الوزارة نفسها، ويلاحظ القارئ أيضاً أن حقوق المرأة والمساواة يندرجان تحت قسم التعليم والمعرفة.
هنا يرى الوزير المسؤول عن الجامعات والعلوم والبحوث والابتكارات، أن تراجع الجامعات عن تقليد راسخ هو تدريب الذهن المعرفي على الفكر النقدي في حوارات ودراسات مفتوحة في إطار حرية التعبير، هو تراجع يضر بالمجتمع كله ويقوض الأساس المعرفي لاستراتيجية وزارة التعليم.
القانون الذي أعلن هذا الأسبوع ويدخل حيز التطبيق خلال ستة أشهر ستتولاه وزارة جديدة ضمن وزارة المعارف اسمها وزارة شؤون الطلبة.
مخالفة أي جامعة أو معهد للوائح القانون يعرضها للشطب من قائمة المعاهد العليا، وبالتالي تحرم من المنح والامتيازات والدعم المقدم من الوزارة.
لكن لماذا تضطر حكومة أعرق الديمقراطيات وأكثرها ثباتاً إلى إصدار هذا القانون بعد مرور 330 عاماً على بداية عصر التنوير في أوروبا أو عصر المنطق أو عصر القرن الثامن عشر الطويل (الفترة من 1685 إلى 1815 التي شهدت تطور الفلسفة والسياسة والعلوم والاتصالات، خاصة بعد انتشار الكتب عقب اختراع الطباعة) أو مائتي عام بعد حسم القضايا التي كبلت الفكر الإنساني في العصور الوسطى، قضايا كالحرية الفردية، وحرية الفكر والتعبير، والمساواة وسيادة القانون. فلماذا تخوض الحكومة البريطانية معارك حسمت بالفعل لصالح الإنسانية؟
ربما تكمن الإجابة في الخطأ (المضحك في طرافته) الذي وقع فيه بعض المثقفين العرب بعد قراءة مقابلة وزير الجامعات جو جونسون في «التايمز»، فوضعوا الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي موجهين السؤال، على ما يبدو، للقراء العرب بما معناه هل نرى الحكومات العربية يوماً تصدر القوانين بحماية حرية التعبير في الجامعات؟
والأمر بالطبع معكوس تماماً، لأن الذي يهدد حرية التعبير في الجامعات البريطانية ليس جهة حكومية أو أحد أجهزة الدولة، وإنما النشاطات الطلابية نفسها ومجموعات نشطة تستخدم حقها في التعبير بحرية، لشيطنة من يخالفهم الرأي ولمنع الآخرين الذين يخالفونهم الرأي من حرية التعبير.
وقد تطرقنا من قبل للموضوع على هذا المنبر، وهو أن الليبراليين الجدد واليسار بشقيه التقليدي والراديكالي المعاصر، ذهبا إلى مرحلة ما بعد الليبرالية؛ التي يفترض أن تكون في طليعة الدفاع عن حرية التعبير، لتكون مرحلة الرقابة وتقييد حرية التعبير من القاعدة إلى القمة.
التيارات التي سمت نفسها، وعرفها القاموس السياسي اليساري بـ«التقدمية»، وهي حركات ليبرالية ويسارية في البداية، ربما كان هناك مبرر منطقي في لصق لافتة التقدمية عليها في منتصف القرن العشرين لأنها بالفعل طرحت قضايا أكثر تقدماً من التفكير الجماعي للمجتمع ككل وقتها. تيارات كالمساواة بين الجنسين أو ما عرف بتحرير المرأة، والحفاظ على البيئة من التلوث، ومنع العقاب الجسماني من مدارس الأطفال، والمساواة بين الأفراد بصرف النظر عن الجنس والعقيدة، والعرق والجنسية، وحق الرعاية الصحية والتعليم المجانين، وحرية العقيدة والفكر والتعبير. نعم كلها قضايا عندما بدأ طرحها كانت تقدمية الطابع ومن ثم يمكن تسمية العاملين على تحقيقها التقدميين. هذه المعارك المتعلقة بالقضايا التقدمية حسمت بالفعل لصالح طارحيها؛ لكن اليسار الجديد (وهو يسار قديم جداً ويتحول بطروحاته وممارساته العملية إلى ما يشبه ممارسة العصر الستاليني في الاتحاد السوفياتي)، والليبرالية الجديدة (التي أصبحت أكثر تشدداً وأقل تسامحاً من القوى التقليدية التي ناهضتها الليبرالية قبل قرنين) فتحا جبهات جديدة لإعادة خوض المعارك التي حسمت بالفعل في القضايا التي أشرنا إليها.
وهنا تتصادم أهم القضايا التقدمية الأساسية، وهي حرية الفكر والتعبير، والمفاهيم الأخرى التي يعيدون خوض المعارك من أجلها.
اليسار والليبرالية الجدد لا يستخدمان أسس الحوار الجدلي الفلسفي لحل هذا التناقض في إطار الفكر النقدي حسب مفاهيم الدراسة الجامعية التقليدية بالمفهوم المعرفية.
مثلاً طلاب جامعة كارديف منعوا الكاتبة جيرمين غرير، وهي من مؤسسات الحركة النسوية من إلقاء محاضرة. هؤلاء الطلاب من التيارات اليسارية جمعوا التوقيعات ونظموا حركة احتجاج وهددوا إدارة الجامعة والاتحاد الطلابي بإثارة المتاعب مصرين على إلغاء دعوة الكاتبة.
الحركة تحركت في كل الجامعات لإلغاء دعوة لبروفيسور زائر أو فيلسوف أو محاضر ومنعه من إلقاء كلمته إذا قرروا أنه رجعي أو يخالفهم الرأي.
وأحياناً يصاحب الاحتجاج الاعتداء اللفظي أو الجسمي أو منع الجمهور من دخول قاعة المحاضرات، بدلاً من الاستماع للمحاضرة ومناقشة صاحب الرأي المخالف.
قلق وزير الجامعات هنا أن انتشار الظاهرة في الجامعات يقوض الأساس الفكري الفلسفي الذي بني عليه التعليم الجامعي، وأهمها حرية التعبير ومجادلة الخصم لا حرمانه من حقه في التعبير الحر.