حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لبنان آخر ما زال ممكناً

من كردستان الغربية إلى الموصل وكركوك والأنبار... ومن دير الزور والرقة إلى إدلب بعد حلب... إلى جرود عرسال ورأس بعلبك والبقاع، وقبل ذلك «التسوية» السياسية التي أنهت الشغور الرئاسي في لبنان، وأقامت ائتلافاً حكومياً جمع معظم الطبقة السياسية، قيل في حينه إنها (التسوية) خشبة خلاص وقف الانهيار المتسارع، واستعادة حياد عن حرائق المنطقة... تعيش المنطقة على خط زلازل مخيف.
السواد في أكثر من مكان، تمّ فرضُه مع ابتداع تركيبة قتل ودمار كانت «داعش» آخر تجلياتها، استفادت هذه الظاهرة من نسيج أرهقه الظلم والقهر والتمييز والتجويع والمعتقلات فتعمق وجودها. تشاركت ديكتاتوريات المنطقة وأبعد منها في ابتداعها، لأنها ورقة اليانصيب الرابحة التي استدرجت كل هذا التدخل والدمار، وتحويل كل المشرق العربي لمناطق نفوذ إقليمي ودولي، وأي قراءة متأنية في المشهد تقود فوراً لرؤية الغطرسة الإيرانية ومخططاتها للهيمنة، لأن الساعين أبداً لإقامة إمبراطورية ساسانية جديدة، يدركون بالتجربة، أنه لا نفوذ لهم، إلاّ على أنقاض عمران واقتلاع أعراق، ويكفي للتأكد والتبصر إلقاء نظرة واحدة على البلدان التي ادعت طهران أنها تسيطر على عواصمها.
بالتأكيد لم يكن العراق بلداً موحداً يوم 24 سبتمبر (أيلول) الماضي ليضعه الاستفتاء التاريخي يوم 25 منه على سكة الانفصال، بل إن إقامة حكم مذهبي في بغداد بعد العام 2003، ترأسه نوري المالكي وأدارته طهران ضد سائر مكونات البلد، وأساساً المكون العربي السني، هو الذي أخرج المكون الكردي، بعدما فُقد الأمل في إقامة دولة مدنية عصرية تضمن حقوق كل مكوناتها وأفرادها، وهذا المكون كان قد انحازَ لوحدة العراق منذ العام 1921. ورغم كل الصراعات والجور ضده، فكل الأنظمة التي حكمت العراق ملكية أو جمهورية أو ديكتاتورية، حاذرت المنحى الذي ساد بعد العام 2003. وراعت ولو بحدٍ أدنى متطلبات وهموم أهل البلد. اليوم من المؤسف الوصول لهذا التدهور المريع فالكي سيف ذو حدين، وإذا كان الكل أمام حائط مسدود، فمن الثابت أن وصاية طهران الشاملة على كل العراق تصدعت وتراجعت كثيراً.
«خفض التصعيد» في سوريا أمر بالغ الأهمية نجم عنه وقف للنار يتمُّ احترامه بنسبة عالية، ما أوقف الموت المجاني للسوريين، كما توقفت عمليات التهجير والاقتلاع والتغيير الديموغرافي، وتُتيح هذه الاتفاقات تباعاً عودة ولو مشروطة إلى بعض الأمكنة، كما أنها المدخل لفتح ملف المعتقلين والمخفيين قسراً. هذا الوضع لم يكن متاحاً لأن موسكو أرادت ذلك في اجتماعات «أستانة»، وأخذت دعماً تركياً وانتزعت موافقة إيرانية، بل هو الترجمة لعجزٍ عن حسمٍ عسكري ضد الشعب السوري، نتيجة لصمود أسطوري للناس الذين تحدوا البراميل والكيماوي والصواريخ الذكية. واليوم مع بلوغ السيطرة الروسية على نحوٍ 50 في المائة من مساحة سوريا، والتقدم اللافت في دير الزور المحافظة الغنية بثرواتها، والاستراتيجية جداً، شهدنا السيد دي ميستورا يدعو النظام والمعارضة إلى «جنيف 8»، ما يعني أنه إذا لم تتم عملية سياسية بموازاة «خفض التصعيد»، فعودة العنف ستكون أحد الاحتمالات، وإذ ذاك تكون اتفاقات «أستانة» مهددة بالانهيار، وتتلاشى قيمة الانتصارات المحققة ضد «داعش» والإرهاب. لا بل إن الحل الوحيد لإنهاء العنف، وهذا دون شك مطلب روسي لتكريس المصالح الروسية قبل أن يكون مطلب الآخرين، لن يكون ممكناً إلاّ من خلال عملية انتقال سياسي، لكن دون أي توهم بأن سوريا أمام الحل العادل والمثالي. رغم ذلك يستحيل عندها تأبيد سلطة الأسد، أو حلول النفوذ الإيراني محلّ «داعش» و«النصرة»... ومرة أخرى ليس أمام النفوذ الإيراني في سوريا إلاّ التراجع.
لبنان الذي دخل «التسوية» المفروضة، مكّنت حكومة «استعادة الثقة» (حزب الله) من أن يصبح الفئة الأقوى المسيطرة على القرار السياسي والأمني وأكثر مؤسسات الدولة. و«التسوية» التي قيل زوراً إنها صُنعت في لبنان، هي اليوم مجرد غطاء لعملية الاستيلاء على القرار اللبناني، مؤخراً برز ذلك عندما مُنع الجيش من إكمال انتصارٍ كان باليد في حرب «فجر الجرود»، ثمّ في منع اللبنانيين من الاحتفاء بجيشهم المنتصر. ومن بيروت إلى القاهرة ونيويورك وباريس، كل لبناني شاهدٌ على مواقف سياسية، تستخف بالقرارات الدولية التي تحمي لبنان ولا تستجيبُ إلاّ لمتطلبات الأجندة التي رسمتها طهران للمنطقة.
في ظلِّ هذه «التسوية» والضغوط لأخذ لبنان إلى المحور المعادي لمصالحه ومصالح الشرعية العربية، يتهدد الخطر وثيقة الوفاق الوطني والدستور واستمرار الجمهورية. الجيش السوري في زمن سيطرته التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود، عمل على تحطيم الأحزاب السياسية وتهشيم النقابات العمالية والمهنية فبات المجتمع المدني من دون أسنان، لكن البنية التي مثلها في حينه «لقاء قرنة شهوان» و«المنبر الديمقراطي»، وفّرت رافعة في العام 2005، ساهمت في هزِّ نظامين أمنيين وأخرجت الجيش السوري من لبنان. التطييف بعد العام 2005 من جهة، واستنساخ تجربة الثنائي الشيعي مسيحياً، صبَّ في خدمة الحزب المسلح، الذي يستقوي بالأمر الواقع وبلحظة إقليمية شديدة الالتباس، لكن ذلك لم ينسحب شعبياً بدليل إحصاءات نشرت مؤخراً أظهرت هُزال تمثيل أحزاب السلطة، وجاءت معركة الأجور والضرائب لتظهر اتساع الهوة بين الناس والطبقة السياسية الحاكمة، وقرعَ تكرارُ الانزلاقات التي استهدفت الحريات جرس إنذار، بحيث بدا البلد على طريق إقامة نظام أمني يحاكي مرحلة احتلال النظام السوري.
في لبنان هناك حالة انتقال من الاحتجاج الصامت إلى مرحلة التكتل لإنقاذ الجمهورية والسعي لتسجيل خرقٍ واسع في التركيبة النيابية، رغم سوء قانون الانتخاب الذي يفتقرُ لوحدة المعايير بين الناخبين. بهذا السياق أُطلقت في بيروت في 21 أيلول وفي لقاء سياسي مبادرة لاستنهاض الحريصين على الجمهورية، أعلنت رفضها لأي سيطرة فئوية على صيغة الاجتماع اللبناني ودولته، وأكدت أن طهران لن تنجح في كسر ما استعصى على غيرها. وفي الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) ينعقد اللقاء الوطني، وأهميته أنه يضم حيثيات مدنية شيعية ترفض هيمنة الثنائي الشيعي وتتمسك بشرعية وثيقة الوفاق الوطني والشرعيتين العربية والدولية. وفي العاشر منه يُطلقُ «التجمع اللبناني» كحركة اعتراض، من عناوينها استعادة السيادة كاملة غير منقوصة ورفض السلاح الفئوي والدويلة، كما استعادة المؤسسات والمال العام، وتقديم الفاسدين المرتكبين إلى القضاء، لأنه دون ذلك سيدفع الشعب اللبناني كلفة انهيار نقدي ومالي حتمي.
هذه التجمعات وسواها سيضعها الغليان الشعبي أمام تحدي التشبيك فيما بينها، كي تتحول انتخابات العام 2018 إلى فرصة لبدء مسيرة التغيير، مسيرة إعادة تكوين السلطة، واستعادة لبنان لدوره ومكانته. نعم المؤشرات الشعبية تشي أن لبنان آخر خارج السيطرة والاستتباع ما زال ممكناً.