خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من حكميات البداوة

التصغير من قوالب البلاغة العربية شاع في الفصحى والعامية. من أمثلة ذلك قولهم «إن العصا من العصية». وأول من قال ذلك الأفعى الجرهمي. ففي أيام الجاهلية والبداوة، حيث لم تكن هناك قوانين أو محاكم، كان الناس يعرضون نزاعهم على أحد حكمائهم، وكان الجرهمي واحداً منهم. فعندما توفي نزار اختلف أولاده، مضر وربيعة وإياد وأنمار في قسمة التركة. لم يلجأوا للاقتتال والإرهاب والعنف وإنما قصدوا العدالة والعقل بطرح نزاعهم عليه.
مشوا نحوه وفي طريقهم لاحظ مضر آثار عشب فقال إن البعير الذي رعى هذا الكلأ أعور. وأضاف ربيعة فقال وهو أزور. وقال إياد إنه لأبتر. وقال أنمار إنه لبعير شرود. واصلوا طريقهم فإذا برجل ينشد جملاً ضائعاً فسألهم عنه. فأجابه مضر: أهو أعور؟ قال: نعم. فتكلم ربيعة وقال: أهو أزور؟ قال: نعم. وسأله إياد: أهو أبتر؟ قال: نعم. فقال أنمار: أهو شرود؟ قال: نعم.
قالوا: والله ما رأيناه. فقال هذا كذب. واتهمهم بإخفاء جمله. كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري هكذا؟ تخاصم معهم وادعى بجمله. فسعى هو أيضا لعرض نزاعه معهم على الحكيم الأفعى الجرهمي. واتفقوا على ذلك. ولربما لا يصدق ذلك القارئ الكريم، ولكن يظهر أن القوم كانوا أعقل منا فلا يرجعون للعنف كما قلت. بل يحتكمون إلى عقلائهم ويصيخون لأحكامهم. ولكن ذلك، كما نرى، كان زمناً مضى وقضى.
مثل القوم أمام الجرهمي فسأل أولاد نزار: كيف وصفتموه ولم تروه؟ قال مضر: رأيته رعى جانباً وترك جانباً فعلمت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدته، فعلمت أنه أزور. وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره. ولو كان ذيالاً لفرقه. وقال أنمار: عرفت أنه شرود لأنه كان يرعى في المكان الملتف نبته ثم يجوزه إلى مكان أخبث نبتاً. فقال الأفعى للرجل: إنهم ليسوا بأصحاب بعيرك فاذهب وأبحث عنه.
ثم سألهم: وما خطبكم؟ فأخبروه بما جاءوا من أجله. قال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى؟ ولكنه حكم فيما بينهم وقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر. فذهب مضر بالدنانير والإبل الحمراء فسمي «مضر الحمراء». وقال: وأما صاحب الفرس الأدهم والخباء الأسود فله كل شيء أسود، فصارت لربيعة الخيل الدهم. فقيل «ربيعة الفرس». ثم قال: وما أشبه الخادم الشمطاء فهو لإياد. فصارت له الماشية البلق فسمي «إياد الشمطاء»، ثم قضى لأنمار بالدراهم وما فضل فسمي «أنمار الفضل».
وبعد أن أجرى قسمته بينهم استضافهم فخرجوا من عنده على ذلك. وتأمل الأفعى الجرهمي في ذكائهم وتذكر أباهم نزاراً فقال: إن العصا من العصية وإن خشينا من أخشن، وهما جبلان أحدهما أصغر من الآخر. فأرسلهن مثلاً.