ماكسيم ترودوليوبوف
TT

وجهة نظر الكرملين: البقاء هو الداروينية

في خطوة نادرة مشتركة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، صوّت الكونغرس لصالح تشديد العقوبات ضد روسيا، ووقع الرئيس دونالد ترمب على القرار ليتحول إلى قانون. وقبل أن يجف حبر توقيع الرئيس الأميركي على القانون الجديد، سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الانتقام من خلال المطالبة بطرد مئات الأميركيين والروس من العاملين في البعثات الدبلوماسية الأميركية داخل الأراضي الروسية.
لقد تابع بوتين الولايات المتحدة وهي تقدم على تحويل قائمة مؤلمة بالفعل من العقوبات من مرسوم رئاسي من السهل إلغاؤه إلى قانون يكاد يكون من المستحيل إلغاؤه في وقت قريب... نتيجة مؤسفة لسياسة اتبعها الكرملين على أمل رفع العقوبات تماماً.
في الواقع، لقد كبحت موسكو جماح نفسها ونأت بنفسها عن طرح رد مكافئ عندما قرر الرئيس أوباما تحديث العقوبات كرد فعل على مؤشرات توحي بأن قراصنة روس تدخلوا في الانتخابات الرئاسية الأميركية لمعاونة ترمب. وانتظاراً لبدء فترة رئاسة ترمب التي كانت على وشك الانطلاق، اختار بوتين انتظار حدوث تحسن محتمل في العلاقات الروسية - الأميركية. إلا أنه في الوقت الراهن نجد أن المصدر الوحيد الممكن لمثل هذه الآمال، ترمب نفسه، لا يفعل شيئاً.
وعليه، لم يجد ترمب أمامه بداً سوى الانتقام. من جانبه، عمد الكرملين، الأربعاء، إلى التخفيف قليلاً من تأثير الإجراءات التي اتخذها بوتين بإعلانه أنه لن يتخذ مزيداً من الإجراءات الانتقامية بخلاف ما جرى إقراره بالفعل. ومع هذا، ظلت ثمة مفارقة قائمة: ففي الوقت الذي أصبحت فيه يد ترمب الآن مقيدة فيما يتعلق بالتعامل مع روسيا، أصبح بوتين طليق اليد لتجريب ما يشاء.
المؤكد أن أميركا تتمتع بقدرة أكبر بكثير على إلحاق آلام اقتصادية بروسيا عن قدرة الأخيرة على فعل المثل. ومع هذا، كشفت التجارب الأخيرة أن روسيا لا تسمح للمحن بالنيل منها. بدلاً عن ذلك، غالباً ما تنطلق روسيا في موجة من الأفكار المبتكرة من رحم اليأس.
بأسلوب آخر يمكن القول إن الكرملين يلجأ إلى خطوات راديكالية على الصعيد السياسي لدى شعوره بتعرضه لضغوط. أما بوتين، فغالباً ما يلجأ إلى مغامرات بطولية. وكان ضم القرم في مارس (آذار) 2014 واحدة من هذه الخطوات، أما المحنة التي استفزت موسكو تجاه هذه الخطوة فكانت انهيار الائتلاف السياسي المدعوم من روسيا الذي حكم أوكرانيا منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي. من جانبه، عمد الكرملين إلى زيادة الضغوط على عاتق الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، الذي واجه آنذاك مزيداً من المقاومة من قبل الأوكرانيين الذين تمكنوا نهاية الأمر من الإطاحة به.
أحد الأسباب وراء سلوك الكرملين قد يكون إيمانه القوي بأن أي حركة شعبية تحمل وراءها إمكانية استغلالها «سلاحاً»، وبالفعل، نظرت موسكو إلى المقاومة الأوكرانية ضد يانوكوفيتش باعتبارها إعلان حرب سياسية عالمية ودليلاً على استغلال الغرب للأوكرانيين في مواجهة موسكو.
وجاءت استجابة موسكو كاشفة، ذلك أنها لم تحاول بناء جسور مع المجتمع الأوكراني أو حكومته الجديدة، بمعنى أن بوتين لم يكن يوجه استجابته للأوكرانيين بقدر ما كان يرى أنه بصدد الاستجابة لتحدٍ استراتيجي من قبل «الغرب». وسعى من وراء الخطوة التي اتخذها إلى توجيه صفعة إلى الهيكل الأمني الذي رعاه الغرب داخل أوروبا، ومن ورائه الولايات المتحدة.
أيضاً داخل سوريا، لم تأتِ استجابة موسكو إزاء هذا البلد المنقسم على نفسه، على المستوى ذاته من استجابة الغرب. وفي عام 2015، بات واضحاً أن السياسة الروسية تجاه سوريا أخفقت، ذلك أن نظام بشار الأسد حليف روسيا كان على وشك السقوط، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة والعناصر التابعة لها تخطط لمحنة أخرى على غرار ليبيا - مقتل حاكم علماني يفتح بوابات الجحيم أمام عدد لا حصر له من القوى الجديدة الخطيرة.
من جانبه، ظل بوتين معارضاً لفترة طويلة سياسات التدخل التي يتبعها الغرب، وأكد أن كثيراً من الأزمات السياسية على مستوى العالم نجمت عن تدخل غربي لتغيير النظام. وعليه، فإن سقوط حليفه كان سيأتي بمثابة هزيمة لرؤيته العالمية. وعليه، فإن موسكو تنظر إلى تدخلها العسكري في سوريا في سبتمبر (أيلول) 2015 باعتباره لا يتعلق بسوريا على وجه التحديد، وإنما بمعارضة روسيا للغرب. وفي الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة التعامل مع روسيا طرفاً مقابل طرف، ترى روسيا أنها تقف في مواجهة مؤامرة عالمية تقودها واشنطن.
وتأتي العقوبات الجديدة التي أقرت الأسبوع الماضي محنة جديدة على غرار الإخفاقات المبكرة التي عانتها روسيا على صعيد سياساتها تجاه أوكرانيا أو سوريا، وهي إخفاقات نجحت موسكو في التعافي منها سريعاً على نحو أذهل الغرب.
بيد أن الأزمة هذه المرة تبدو من وجهة نظر الأميركيين أقرب إلى أرض الوطن، ذلك أن موسكو تواجه اتهامات بمحاولة التأثير، ليس على مجرد حفنة من أجهزة الحاسب الآلي، وإنما منصب الرئاسة ذاته.
من جانبي لا أدري على وجه اليقين ما إذا كان الكرملين حاول بالفعل التدخل في العملية الانتخابية الأميركية أم لا، لكن يبقى من المؤكد أن موسكو كانت لها مصلحة محورية في نتائج انتخابات 2016. داخل دوائر موسكو السياسية، كان يجري النظر إلى هيلاري كلينتون باعتبارها بادرت بمحاولة التدخل في الانتخابات البرلمانية الروسية عام 2011 بهدف إسقاط نظام بوتين. وبغض النظر عما يمكن أن تكون روسيا فعلته للتدخل في مسار العملية الانتخابية الأميركية، فإنه يبدو لها ثأراً وتطبيقاً لقاعدة «العين بالعين»... إجراء معتاد من أي قوة عالمية تتعامل مع ما تعتبره متآمرين أجانب ضدها.
في الواقع، قد يكون بوتين محقاً في كثير من الأمور، خصوصاً أن العلاقات الدولية مجال لا وجود فيه للأخلاقيات المثالية وتتسم بطبيعة تنافسية واضحة. بيد أن المشكلة في هذا النمط من التوجهات، خصوصاً النمط الذي يتبعه الكرملين، أنه على ما يبدو يكافئ بين التنافس الدولي والصراع الدارويني من أجل البقاء، بمعنى أن التحركات الروسية نابعة من الشعور بتهديد لوجود البلاد ذاتها.
ورغم أنه من الطبيعي أن يتنافس كثير من دول العالم على الهيمنة داخل أسواق بعينها أو من أجل النفوذ السياسي، فإن ما يميز روسيا أنها تبدو كأنها تقاتل من أجل البقاء في مواقف لا يرى أي طرف آخر أنها تنطوي على خطر يهدد بقاء الدولة الروسية ذاتها.
وفي رأيي، يفسر ذلك السبب وراء ظهور موسكو في الغالب كواحدة من أكثر العناصر على الساحة الدولية التي يتعذر التنبؤ بخطواتها. أما ثمن ذلك، فيتحمل الشعب الروسي النصيب الأكبر منه، وكذلك دول أخرى، خصوصاً دول الجوار، ذلك أن ثمن حالة الريبة المستمرة دائماً ما يكون إنفاقاً عسكرياً باهظاً وتفاقم التهديدات للسلام والرخاء.
* خدمة «نيويورك تايمز»