محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

ما لا تعرفه عن عبد الحسين

قد لا يعلم البعض أن عملاق الكوميديا الخليجي النجم الكويتي الراحل عبد الحسين عبد الرضا قد بدأ مشواره موظفاً مغموراً في مطبعة الحكومة قبل أن يتدرج فيها إلى مراقب عام، وتم ابتعاثه إلى ألمانيا لتعلم فنون الطباعة تقديراً من الدولة لتفانيه في العمل.
غير أن المرحلة الفاصلة في حياته كانت تخطيه «مقبرة الموهوبين»، وهي لحظات تندر من حولنا على إبداعاتنا، التي وئدت بسببها مواهب ملايين العرب. كان عنوان تلك المرحلة «البديل الناجح» حينما نجح عبد الحسين عبد الرضا في إثبات تفوقه في أدائه لدور بديل للممثل عدنان حسين، ولما شاهده مؤسس المسرح العربي المخضرم زكي طليمات أعجب به أيما إعجاب، فانطلق بوعدنان في رحلة فنية زاخرة ناهزت الستين عاماً، أثمرت عن نحو 35 مسرحية ومسلسلاً كلها خالدة في وجدان المجتمع الخليجي لقوة طرحها.
ولا يعلم البعض أن مسرحية «فرحة أمة» التي جلدت سلبيات مجتمعنا الخليجي برقٍ وخلت من التملق، قد قدمت أمام قادة دول مجلس التعاون الذين صفقوا لها مراراً طوال العرض، في سابقة أولى في تاريخ الخليج، إن لم يكن العالم العربي كله بأن يجلس قادة ست دول أمام عملاق فني لا يشق له غبار. هذه بحد ذاتها أرفع شهادة تقدير لشخص لم يعرف عنه الزلف، بل كان زاده الفن الراقي والهادف. وهي دليل على أنك إن كنت موضوعياً وصاحب رسالة ووطنياً بحق يحترمك الجميع، ولا عزاء لبعض المتسلقين على جدار الفن والسياسة والرياضة في عصرنا.
عبد الحسين أكد لنا أنك إذا أردت موضع قدم في ميدان ما أن تكون صادقاً وملتزماً بمبادئك وتطور أدائك باستمرار، وتحيط نفسك بالموهوبين من حولك، تماماً كما كان يفعل من تبنيه للموهوبين مهما صغر سنهم أو تاريخهم. كان شعورنا حينما ترفع ستارة مسرح عبد الحسين لا يوصف لأننا حتما سنشاهد جديداً نصاً أو صوتاً أو صورة أو فناناً متألقاً اكتشفه بوعدنان بحسه المرهف. كان حول عبد الحسين نجوم لكنهم كانوا يدورون في مجرة إبداعاته، إذ ما كان ينتهي من مسرحية حتى تبدأ أخرى أقوى منها بمراحل؛ بسبب وجود المبدعين، والأهم «النص الجيد» الذي قال إن غيابه هذه الأيام سبب تدهور الأعمال الفنية رغم «توافر الفنانين»، وقبل ذلك كله توفر مناخ الحرية الواسع في بلادنا.
وعبد الحسين لم يأتِ من فراغ، بل من بيئة زاخرة مثل أسرته التي قال إنها «كوميدية بالفطرة»، وأننا لو شاهدنا والده وهو يمارس الكوميديا الساخرة على من حوله لما اعتبرناه شيئا، كما لمح في لقاء تلفزيوني. ولم ينشأ بوعدنان في بيئة تغذيه بالطائفية أو القبلية ثم تذم المجتمع الذي لا تفسده سوى أسر تخرج أناساً يكرهون الآخر.
ترعرع عبد الحسين في الكويت التي كانت في منتصف القرن الماضي منبعاً للفنون والثقافة، وتقدم أشهر العروض السينمائية ومنها أفلام يحيى شاهين في قلب ساحة الصفاة الشهيرة، بطريقة بدائية، عبر ستارة بيضاء هزيلة ومكبر صوتي، وكان بوعدنان «يحفظ نصوصها» من كثرة مشاهدتها كما قال، حتى جاء يوم اقتلعت فيه عاصفة جوية تلك الشاشة، وبقي الصوت الذي يبدو أنه حفر في ذاكرته فترعرع على أفضل النماذج.
ربما يجد البعض مفارقة عجيبة بأن أقرب مسرحية لعبد الحسين إلى قلبه «باي باي لندن» هي المدينة التي فارق الحياة فيها، لكن الأعجب ما رواه لي الفنان الكويتي داود حسين، حينما قال إنه شاهد عبد الحسين وقد انتقلت روحه إلى بارئها وهو «مبتسم»، وكأن لسان حاله يقول لنا جميعاً استمروا بالابتسامة علناً نتغلب على تجهم الأحداث من حولنا.