أنا ساوبيري
كاتبة اميركية من خدمة «نيويورك تايمز»
TT

ترمب يوحد الألمان ضده

رغم ما يبدو عليه الأمر من غرابة، لكن كان هناك بالفعل وقت بدا خلاله السياسيون الألمان شخصيات لطيفة، فقد كان في صفوفهم هيلموت شميت الذي تولى منصب المستشار خلال سبعينات القرن الماضي، والذي خاض غمار أوقات عصيبة بصلابة ودأب. إلا أن هذا كان فيما مضى، ومنذ ذلك الحين تولت إدارة البلاد مجموعة من الرجال والنساء المتبلدين، الأمر الذي لم نجد فيه نحن الألمان غضاضة. ولسبب وجيه، بدا أن الألمان كانوا يعانون من حساسية معينة إزاء الكاريزما السياسية.
بعد ذلك، جاءت مجموعة جديدة من الزعماء العالميين من أصحاب المظهر العصري، كان أولهم باراك أوباما، والآن جاستن ترودو في كندا وإيمانويل ماكرون في فرنسا. وعليه، قررت ألمانيا أن تجرب حظها في محاولة إضفاء هالة عصرية لطيفة على الساحة السياسية، من خلال إغداق الثناء على السياسيين من عاشقي الظهور الإعلامي، والمشاركة في «المقاومة» المناهضة لترمب التي تحولت إلى صيحة عالمية. في الواقع، هذا خطأ.
وكان أحدث السياسيين الذين خاضوا محاولة الظهور بمظهر عصري لطيف، كريستيان ليندنر، 38 عاماً، زعيم الحزب الديمقراطي الحر المؤيد للنشاط التجاري، والذي يحرص على الظهور في صور حملاته الانتخابية بلحية خفيفة، بينما أزرار ياقة قميصه مفتوحة.
من جانبها، تتسم المستشارة أنجيلا ميركل بحس فكاهي جاف ينطوي على ذكاء واضح، ويمكنها بالفعل أن تبدو كشخصية عصرية لكن على نحو صارم. ويعني ذلك أنها ليست شخصية سياسية عصرية على النحو اللطيف الذي يبدو عليه ماكرون وترودو. في الواقع، تبدو ميركل وكأنها تحمل أعباء العالم على كاهلها، وتريد منا معرفة ذلك.
مطلع العام، عندما أعلن الديمقراطيون الاشتراكيون عن مارتن شولتز كمرشح لهم في الانتخابات المقرر عقدها هذا الخريف، أقبل الشباب على الانضمام إلى الحزب. وخلال لقاءاته الجماهيرية، حمل أنصاره ملصقات تشبه ملصقات «الأمل» التي ميزت الحملة الانتخابية لأوباما.
إلا أن شولتز أخفق في الظهور بالمظهر العصري السائد، ذلك أنه رغم كفاءته فإنه يفتقر إلى روح الفكاهة، بجانب أنه أشبه بموظف في حزب، وليس يبدو سياسياً يملك رؤية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الذي يحول دون توافق ألمانيا مع صيحة السياسيين العصريين؟ في الواقع، ثمة تفسيرات معلبة طرحت بالفعل، تحمل جميعها وجاهة من منظور ما. هل ذلك بسبب الماضي النازي للبلاد؟ هل لأنه خلال عقود صعدوا خلالها عبر منظومة الأحزاب السياسية الألمانية، فقد المرشحون الشعور بالجرأة والشجاعة؟ هل ذلك لأننا أمة في حالة شك أزلية؟
بطبيعة الحال، مثل هذه الروح العصرية ليست ضرورة ديمقراطية، وليس من حقنا أن ننتظر من صانعي السياسات في بلادنا أن يتحولوا لأداة ترفيه. في الواقع، إن الطابع المتمرد الذي نحتفي به في شخصية ماكرون غير مناسب ببساطة لأن الديمقراطية لا تدور حول عملية صنع قرار فردية، وإنما حول السعي للحصول على اتفاق واسع في الآراء. في الوقت ذاته، فإن تحلي السياسي بطابع عصري لطيف قد يسهم كأداة في إشراك الناس في عالم السياسة وخلق شعور بالانتماء. الحقيقة أن الطابع الظريف والعصري للشخصية يساعد على خلق حالة من التناغم.
لذا، نستمر داخل ألمانيا في المحاولة، دون توافر شخصية حتى الآن يمكننا الاحتشاد حولها، لكن اللافت أن الألمان وجدوا شخصية يمكنهم الاحتشاد ضدها: دونالد ترمب. ويبدو الأمر كما لو أنه إذا لم يكن بمقدورنا أن نستوحي إلهامنا من أمر إيجابي، فقد قررنا أن نستوحيه من السلبي، من خلال الانضمام إلى حركة «المقاومة» كوسيلة لتوحيد صفوفنا وتحفيزها سياسياً.
في الحقيقة، أحياناً يكون ما تحتاج إليه شخص شرير كي تضمن السير قدماًـ وهنا يظهر ترمب كشخصية نموذجية للاضطلاع بدور الشرير، خصوصا بالنسبة لليسار الألماني. ومن المفترض أن الروح السياسية العصرية اللطيفة التي يمكن للجميع الاتفاق حولها ستشكل النقيض لكل ما يفعله ويمثله ترمب.
من ناحية أخرى، فإن الثقافة السياسية «العصرية اللطيفة» بحاجة إلى شفرة يمكن للناس التعرف عليها سريعاً بما يخلق حالة من التناغم الاجتماعي. وكلما زاد عدد الأشخاص الذين تود ضمهم تحت مظلة هذه الثقافة، تعين تميز هذه الشفرة بالبساطة. وعليه، جعلنا من ترمب مجرد شخصية كارتونية، مع التركيز على شعره الأصفر وذوقه غير الحسن في اختيار ملابسه (في ألمانيا تحديداً، يروق للألمان تشبيه ترمب بالجوكر). وخلال قمة مجموعة الـ20 انتشرت مثل هذه الصور في كل مكان، لدرجة ربما تدفع زائراً للبلاد على غير معرفة بالسياسة إلى افتراض أن ترمب مرشح في الانتخابات الألمانية المقبلة.
ومثلما هو متوقع، حاول شولتز استغلال هذه الموجة العصرية المناهضة لترمب في خدمة حملته الانتخابية عبر الانضمام لـ«حركة المقاومة» وإخبار أنصاره بأنه «من واجبنا الوقوف في طريق هذا الرجل مسلحين بكل القيم التي نؤمن بها». ويحاول شولتز إضفاء طابع شخصي على الصراع، من خلال جعل نفسه نجم المعسكر المناهض لترمب، بل ووصل الحال لمطاردته إياه عبر «تويتر».
ورغم أن هذه الحال ربما تعود بنتائج جيدة على السياسيين، فإنه سيئ بالنسبة للمناخ السياسي العام. ومثلما أن لانجذاب الجماهير للمرشحين السياسيين أصحاب الشخصيات الكاريزمية أضراره من خلال فقدان القدرة على رؤية عيوبهم، فإن تحويل ترمب لشخصية كرتونية شريرة تجعل منه شخصاً غير واقعي وربما ننسى بمرور الوقت أنه يعيش بيننا في عالم الواقع.
أيضاً، يسهم ذلك في تشويه ما يتعين على الناخبين القلق بشأنه حقاً. ورغم أنه بالتأكيد يحمل ما يجري داخل الولايات المتحدة أهمية للناخبين الألمان، باعتبارها أقرب حلفائنا إلينا، تظل الحقيقة أن ترمب ليس مستشار البلاد. في الواقع إن ترمب لا يعدو كونه كبش فداء غريباً لغياب الشعارات المتميزة والروح العصرية عن المشهد السياسي الألماني.
على أي حال، سيرحل ترمب يوماً ما. وفي تلك الأثناء، يتعين على الحياة السياسية الألمانية العثور على أسلوب أكثر إيجابية واستدامة لجذب اهتمام الجماهير وتناول القضايا التي تهمهم بالفعل.
* خدمة «نيويورك تايمز»