د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

دليل الإنسان الذكي إلى الشرق الأوسط

بحكم المهنة، وسواء في الكتابات الصحافية أو البحوث الأكاديمية، فإن تعريف المصطلحات والأمور ضروري حتى يكون الكلام محكماً والحكمة مقصودة. وفي يوم ما فإن (الشرق الأوسط) لم يكن إقليماً يخص أصحابه أو من يعيشون فيه، وإنما منطقة حدّدها الاستعماريون الأوروبيون بين الشرق الأدنى أي المنطقة اللصيقة بالبحر الأبيض المتوسط؛ والشرق الأقصى الذي يقع بعيداً على المحيط الهادي. منطقياً صار الشرق الأوسط ما بينهما، ويضم دول إيران وأفغانستان وباكستان وما هو معروف الآن بآسيا الوسطى. جاءت الحرب العالمية الثانية، ومن بعدها إنشاء دولة إسرائيل فذاب الشرق الأدنى في البحر المتوسط، وتزحزح الشرق الأوسط غربا لكي يشمل الدول العربية وإسرائيل التي بات صراع العرب معها هو (الشرق الأوسط) بعينه، فيقال أزمة أو صراع الشرق الأوسط. ومع انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي سقط جنوبه من الجمهوريات «الإسلامية» إلى الشرق الأوسط فاتسع شرقا لكي يضم أيضا أفغانستان وباكستان. ومع ظهور الإرهاب والمنظمات الراديكالية المتطرفة وتوطنهم بين أرجاء إقليم واسع، صار الشرق الأوسط ممتدا من حدود الصين شرقا وحتى المحيط الأطلنطي غربا، ومن البحر الأسود شمالا حتى القرن الأفريقي جنوبا. والآن، فالعجب هو أن الإقليم لا يكف عن التوسع، فقد نزل جنوبا في الصحراء الأفريقية بعد أن امتدت وتمددت منظمات إرهابية من الصومال إلى مالي.
في هذا الفضاء الواسع بتشابكاته الجيوسياسية، والجيوإرهابية معا، فإن الصراعات ليست لها نهاية بالضرورة، ففي منطقة لا تعرف لا النسيان ولا المغفرة، فإن ما جرى في التاريخ الذي مضى ممتد حتى التاريخ الذي سوف يأتي. وفي الولايات المتحدة هناك عجب بالغ من أن أطول الحروب في تاريخ الولايات المتحدة لم تعد الحرب الأهلية الأميركية (1860-1865)، ولا الحرب العالمية الثانية (1941-1945)؛ وإنما الحرب في أفغانستان التي بدأت في 2001 وبعد ستة عشر عاما فإنها لم تنته حتى الآن. وحتى عندما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من العراق بعد تسع سنوات، فإنها لم تلبث فترة قصيرة إلا وعادت بعدها في أشكال جديدة. وفي كل مرة جاءت فيها الولايات المتحدة أو ذهبت، فإنها جذبت معها دول حلف الأطلنطي جيئة وذهابا. وفي نقاشات حضرتها مؤخرا كان السؤال الجوهري هو هل انتهت «دولة داعش» فعلا، وكانت الإجابة هي أنها أولا لا تزال باقية وموجودة في مناطق بين سوريا والعراق؛ وثانيا أن بعضا منها تسلل إلى الفضاء الواسع للدولتين؛ وثالثا أنه إذا كانت «داعش» سقطت أو سوف تسقط فإن «الداعشية» باقية ومستعصية على السقوط؛ ورابعا أن «داعش» وأقرانها من المنظمات الإرهابية تنقسم وتندمج مثل الكائنات العضوية، وهي الآن ربما تنقسم في الشرق الأوسط ويذهب بعض منها إلى جنوب الفلبين أو إلى «تورا بورا». الخلاصة ربما هي أن الحرب على الإرهاب سواء كانت عالمية أو إقليمية أو محلية لا ينتظر لها أن تصل إلى نهاية، فلن يكون هناك مؤتمر مثل فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، ولا مؤتمر مثل بوتسدام أو سان فرنسيسكو بعد الحرب العالمية الثانية؛ أو «كامب ديفيد» للتوصل إلى سلام مصري إسرائيلي. هي حرب مفتوحة إذن زمانا ومكانا، وليس أمام أطرافها سوى الصبر واعتماد سياسة للزمن الطويل تحاصر وتقنن وتقي من شرور بما يكفي لاستمرار الحياة.
والحقيقة أن كل السياسات المعتمدة للحرب لا تضع صورا محددة أو استراتيجية متكاملة للانتصار النهائي؛ وفي معظم مراكز التفكير العالمية، فإن أقصى المطروح هو كسب معارك محددة، ولكنها ليست الحرب الشاملة، وربما كان وجود «داعش» في دولة الخلافة المزعومة فرصة تم انتهازها، ولكن رأس الأفعى يتحرك في مواقع كثيرة. ولا يزال للتعقيد مجال كبير في ذلك الإقليم المتسع للشرق الأوسط، فعلى الأقل فإن ما يجري من معارك الآن أعطى غطاء وضبابا لحروب الجغرافيا السياسية التي تقودها الآن إقليميا إيران وتركيا، ودوليا الولايات المتحدة وروسيا. طهران وأنقرة أحلامهما الإمبراطورية قديمة، وتاريخية، والآن باتت الأحلام مغلفة بالدولة «الإسلامية» والثورية أيضا في إيران؛ وفكر الإخوان «المسلمين» و«العثمانية الجديدة» في تركيا. موسكو من ناحيتها كانت الأسبق لتغيير الحقائق على الأرض السورية بدءا من سبتمبر (أيلول) 2015، ولم تلبث أن لحقت بها واشنطن من النافذة العراقية بعد أن سلمت لموسكو أن سوريا بأكملها باتت منطقة نفوذ روسية. كانت روسيا من القوة والتأثير بحيث كونت تآلفا في الآستانة مع إيران وتركيا ربما لأن لكلتيهما قوات بالفعل في العراق وسوريا، ولديهما أتباع في لبنان. ولكن الجغرافيا السياسية لا تعطي آثارها للدول وحدها، وإنما لجماعات عرقية أن تنتهز الفرصة لكي تفكك دولا وتنشئ دولا أخرى؛ فأكراد العراق المنقسمون في داخلهم والذين توقفت مؤسساتهم عن العمل، يضعون الجميع في داخل وخارج العراق أمام الأمر الواقع لاستفتاء حق تقرير المصير في 25 سبتمبر المقبل. أكراد سوريا يريدون حكما ذاتيا كامل الأوصاف، إلى جوار دولة كردية مستقلة في العراق في وصفة لا يعلم أحد إلى متى تستمر؛ والأخطر إذا ما تفجرت حرب أخرى في المنطقة؛ فلا تركيا ولا إيران ولا العراق ولا سوريا على استعداد للقبول بالاستقلال الكردي؛ ومن عرف دروس استقلال جنوب السودان يعرف أن الاستقلال هو المقدمة لحرب أهلية في الإقليم المستقل، وحرب دائمة مع الدولة التي جرى الاستقلال عنها.
هذا هو (الشرق الأوسط) الذي يواجهه الإنسان «الذكي» في المنطقة؛ وربما لن يحتاج الأمر كثيرا من الذكاء لكي ندرك أن مثل هذه الحالة من السيولة العملياتية بين حروب متنوعة لكل منها أساليبها وأدواتها وتحالفاتها تظهر أنها نتيجة لحالة من الفراغ الاستراتيجي الذي نتج عن أسباب كثيرة سبق تناولها في هذا المقام من أول «الربيع العربي» المزعوم إلى السلوك الإيراني العدواني إلى «الإرهاب» والتطرف، إلى تدخل الدول الكبرى. المنطقة باتت مغرية بمستقبل ساخن لقوى كثيرة داخلية وخارجية، ولا يمكن التعامل معها بذكاء إلا من خلال حلف عربي ربما كانت القوى الأربع التي قاطعت قطر هي المقدمة لتحقيق توازن من نوع ما في منطقة مختلة. الحلف الاستراتيجي على أي حال له متطلبات كثيرة، كما أنه يحتاج إلى الأردن والعراق واقتراب مختلف من سوريا لكي يعتدل الميزان؛ وربما يتطلب سياسة مركبة للتعامل مع روسيا والولايات المتحدة. المهمة صعبة، ومكلفة، خاصة أن الأحوال في واشنطن مرتبكة، وقلقة، في أفضل الأوصاف؛ ولكن لهذا كانت الدبلوماسية والسياسة، والتوظيف الذكي للموارد والقدرات. في السابق كان مغريا كثيرا أن يذهب الجميع فرادى إلى النظام الدولي لتحقيق الأهداف والمصالح؛ ولكن المعضلة الآن أن العناوين في النظام الدولي متضاربة، وفي أوروبا فإن الجميع ينتظر نتائج «البريكست» ومؤخرا ما سوف يحدث في بولندا، وفي موسكو فالأجندة غير معروفة المدى الذي تصل إليه، وفي واشنطن فإن الجميع يعرف الحالة العميقة في غموضها؟!