نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

العلاقات الأميركية ـ البريطانية في حاجة إلى الهدوء

لا يزال الكثير من الأميركيين يعتبرون بريطانيا الوالد الشرعي للسياسة والثقافة في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الحرب الثورية وحرب عام 1812، تطور نوع من العلاقات شديدة الخصوصية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والتي استمرت طوال القرن العشرين. وتمكن الاثنان معاً من هزيمة دول المحور والشيوعية، وأقاما نظاماً عالمياً يستند إلى التجارة الحرة، و«في خاتمة المطاف» حقوق الإنسان العالمية. ولكن حتى قبل أن تترسخ تلك العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الكبيرين، كان التبادل الثقافي والتقني بينها هائلاً - إذ وفرت الاختراعات البريطانية الدعم اللازم للثورة الصناعية الأميركية، وشكلت الأفكار البريطانية حول الحقوق الطبيعية والتسامح الأساس لقيام الحكومة الأميركية. وفي مجال الاقتصاد، كان التأثير البريطاني على الولايات المتحدة كبيراً - ويعتبر آدم سميث وألفريد مارشال وجون ماينارد ثلاثة من أبرز المفكرين الذي أحدثوا ثورة معتبرة في التفكير الأميركي عبر المحيط الأطلسي.
وبالتالي، فإنني أكتب هذه المقالة بقلب مثقل بالأسى والحزن: لقد حان الوقت لحدوث فارق مهم في هذه العلاقات الخاصة، فإن المملكة المتحدة تمر عبر مرحلة من المشاكل الداخلية القاسية والشديدة، وهناك قدر من الأفكار السيئة بدأت تطفو على سطح الفوضى البادية هناك. وتحتاج الولايات المتحدة في ظل هذه الأجواء المسمومة إلى التقليل من اعتمادها، ربما بصورة مؤقتة، على الأفكار البريطانية الخلاقة.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، بطبيعة الحال، هو القرار البريطاني بمغادرة الاتحاد الأوروبي. أجل، هناك مواطن للقصور وبعض العيوب الواضحة في الاتحاد الأوروبي، ولكن كان رد الفعل البريطاني على هذه المشاكل شديد الاختلال. أولاً، كان هناك الاستفتاء البريطاني المثير للجدل بشأن الخروج من عضوية الاتحاد، والذي شهد ظهوراً صارخاً للعنصرية القبيحة والدعاوى القميئة المناهضة للفكر والعقلانية. ثم وفي أعقاب القرار بالخروج من الاتحاد، بدأ بعض الزعماء البريطانيين في التصرف بطريقة أقل ودية تجاه البلدان الأخرى في الاتحاد الأوروبي، مع بعض من القادة في بريطانيا الذين يهددون بالذهاب إلى الحرب من أجل مضيق جبل طارق!
وفي الأثناء ذاتها، لم تستكمل المملكة المتحدة دورة الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى الآن، كما أنها لم تتخذ حتى القرار بشأن تفاصيل عملية الانفصال والانسحاب من الاتحاد. وبالتالي، فالبلاد لا تستفيد في الوقت الراهن من أي من الفوائد المحتملة لمثل هذا الانفصال المزمع، في حين أنها بدأت في المعاناة الفعلية من بعض التكاليف الباهظة لهذا الانفصال. لقد انخفضت الاستثمارات بشدة في قطاع صناعة السيارات البريطانية، وهي في طريقها لأن تبلغ ربع المستوى الذي تمكنت من تحقيقه قبل عامين فقط.
وكان للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي تأثيره السيئ المباشر على الولايات المتحدة. ويبدو أن الرهان على الانتخابات الرئاسية لعام 2016، مع ما فجرته من نعرات عرقية والخطاب المزري المناهض للإسلام، بدأ يجد صداه داخل المملكة المتحدة عبر الاستفتاء الأخير. واستناداً إلى الشواهد الواضحة، من الشائع مواجهة العنصرية البريطانية البيضاء، ومعاداة السامية، والرهاب الإسلامي على «تويتر»، والتي تطالب بالدفاع عن الحضارة الغربية عن طريق طرد غير البيض، وغير معتنقي الديانة المسيحية، وأغلب المهاجرين الآخرين من البلاد. ولا يستطيع تيار اليمين الأميركي إلا أن يتأثر بهذه الأفكار الرجعية وبصورة كبيرة للغاية.
ولكن ليس اليمين البريطاني فقط هو من يمنح أبناء عمومته الأميركيين تلك الأفكار السيئة. فلقد تولى اليسار البريطاني كذلك زمام المبادرة في الهجوم على التوافق السياسي المعتدل والوسطي الذي شهده العالم الحر خلال القرن العشرين بأكمله. والمفكرون اليساريون البريطانيون يصبون جام غضبهم الآن على النيوليبرالية، وعلى التكنوقراط، وعلى صناعة السياسات القائمة على المقاربات الاقتصادية. كما أنهم أصبحوا متورطين وبشكل خاص في الهجوم على المهنة الاقتصادية بمعناها الأصيل.
بكل تأكيد، تجاوزت النيوليبرالية وغيرها من دعاة تحرير الأسواق حدودهم كثيراً في السنوات السابقة على وقوع الأزمة المالية العالمية في 2008، ووقعت المهنة الاقتصادية - ولا سيما الاقتصاد الكلي - في أخطاء كثيرة. ولكن إلقاء اللوم على عاتق التكنوقراطية الوسطى بشأن المشاكل كافة في العصر الحديث هو مجرد عذر وليس جدولاً للأعمال. كما أنه يعد تجاهلاً لكافة الخير الذي حققته التجارة الحرة، ولا سيما بالنسبة للبلدان الفقيرة في العالم. ومن ناحية أخرى، نجد جيريمي كوربن، الزعيم اليساري لحزب العمال البريطاني، يشيد أيما إشادة بسياسات هوغو شافيز، الذي أسفرت سياساته الراديكالية عن انهيار الاقتصاد في فنزويلا. كما شهدنا ظهوراً بارزاً وخطيراً لمعاداة السامية بين ربوع اليسار البريطاني في الآونة الأخيرة.
وبعبارة أخرى، حيث كانت بريطانيا ذات مرة موطن البراغماتية والهدوء العقلاني صارت الآن تصدر التطرف الآيديولوجي من مختلف المناحي الاتجاهات، وبعض من هذه الدعاوى أصبحت تلقى الترحيب الشديد داخل الولايات المتحدة ذاتها. ويا له من تغيير مؤسف للأوضاع عما كان عليه الأمر في ثلاثينات القرن الماضي، عندما ساعد كينز الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في رسم خط الوسط بين عدم التدخل وبين الاشتراكية في إحدى اللحظات العصيبة التي مرت بها البلاد.
ولا يتعلق الأمر فقط بالأفكار البريطانية الراديكالية التي ينبغي على الولايات المتحدة تفادي استيرادها، وإنما كانت السياسة الصناعية البريطانية بالكامل موضع تساؤل وشكوك خلال العقود القليلة الماضية. وتعتمد جميع الدول المتقدمة اقتصادياً اعتماداً كبيراً على صناعة الخدمات، ولكن في المملكة المتحدة اتخذ هذا الأمر منحى شديد التطرف، حيث تشكل صناعة الخدمات البريطانية 80 في المائة من اقتصاد البلاد. ولا يسهل تصدير الخدمات بسهولة؛ مما يساعد في تفسير العجز التجاري المستمر في بريطانيا. وأغلب اقتصاد الخدمات البريطاني يتركز حول الخدمات المالية؛ مما جعل البلاد أكثر عرضة من أي دولة أخرى للانهيار في أزمة عام 2008، وجعلت سياسات التقشف المضللة في المملكة المتحدة الأوضاع من سيئ إلى أسوأ.
وأخيراً، من المهم أن نتذكر أن نصيب المواطن البريطاني من الناتج المحلي الإجمالي يقف عند حد 74 في المائة من المستويات الأميركية، مقارنة بنحو 85 في المائة بالنسبة لألمانيا و89 في المائة في هولندا.
وعلى الرغم من أن بريطانيا من أهم حلفاء الولايات المتحدة على الصعيد الجيو - سياسي العالمي، فإنه لم تعد مصدراً للأفكار الجيدة التي ينبغي على الولايات المتحدة الأخذ بها. ومن المفارقات، أن دولتي العداء القديم في الحرب العالمية الثانية، ألمانيا واليابان، أصبحتا الآن من أقوى المنارات بالنسبة للولايات المتحدة على مختلف المجالات. فلقد ساعد نظام المفاوضة الجماعية الألماني على جعلها من القوى التصديرية الكبرى في العالم، في حين أن الإدارة اليابانية الحكيمة للاقتصاد الكلي قد أعانت البلاد على استعادة دورها الريادي العالمي. وكثيراً ما تجنبت الدولتان، مع ذكرى التطرف الراديكالي الكارثي في القرن العشرين والماثلة في العقل الجماعي في البلاد، التدفقات السياسية المتشائمة التي أغرقت المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
ومن المستساغ بالنسبة للولايات المتحدة في الوقت الراهن أن تنتقل بعلاقتها الخاصة مع المملكة المتحدة إلى مستوى الأفضلية الثانوية؛ حتى يمكن للمملكة المتحدة المضطربة تسوية أمورها الداخلية بنفسها. وينبغي على دولة في حجم ومكانة الولايات المتحدة صياغة نوع جديد من العلاقات الخاصة مع كل من ألمانيا واليابان.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»