طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الصندوق ومفتاحه

بين الحين والآخر نجد كلمة أو تعبيراً وقد أصبح هو المسيطر على كل الأحاديث مكتوبة ومسموعة ومرئية، الكل يتخاطف الكلمة وكأنه قد عثر على كنز ثمين، في السنوات الأخيرة أصبح تعبير (خارج الصندوق) هو الفرخة التي تبيض ذهباً لكل من يضعها في جملة مفيدة أو حتى غير مفيدة، الكل يتمسك بطوق نجاة اسمه الصندوق، مرة خارجة عنه وأخرى قريبة منه، ولكن ألم تلاحظ أن الصندوق لا يزال هو المرجعية، أنه (الترمومتر) الذي نتحرك كلنا في دائرته.
لو تحدثنا عن واحد من أهم صانعي الصناديق في العالم سيصعد على الفور اسم (أرسطو) الذي ولد قبل الميلاد بنحو 400 عام إلا قليلاً، فهو الذي وضع القواعد لكثير من مناحي الحياة في الفيزياء والكيمياء والميتافيزيقا وغيرها، كتابه (الشعر) هو المرجعية الأولى لفن الدراما، وكل من جاء بعده حتى من تمرد مدين له لأنه هو الذي حفزه على تحطيم القالب، في السينما الأخوان (لوميير) لويس وأوجست صنعا الصندوق، وكل مخرج شكل علامة فارقة في تطور السينما جاء بعد الأخوين من المؤكد كانت نقطة انطلاقه هي الصندوق.
في دُنيا السياسة مثلاً تستطيع أن تقرأ ثورات الربيع العربي باعتبارها تنويعات للخروج عن السلطة (الصندوق)، صحيح أنها تعيش حالياً مرحلة التعثر، إلا أننا لا يمكن أن نغفل حتمية تلك الثورات.
دائماً هناك قواعد تتشكل من زمن إلى آخر وبعد مرور حقبة نجد من يحاول اختراقها، لأن للزمن دائماً نغمة جديدة تفرض نفسها ومن لا يلتقطها يجد نفسه خارج الدنيا.
نجوم الكوميديا في العالم، هم أكثر من يتأثرون بتغيير شفرة التواصل مع الجمهور، وهكذا نتابع بين الحين والآخر صعود نجم جديد تلتف حوله الملايين ليمر زمن، ويبحثون عن آخر بمفردات مغايرة وصندوق آخر.
إلا أن كل تغيير ينبغي أن يخضع لمنطق، تفرضه الحياة، عندما بدأ الشعر الحديث المتحرر من الوزن والقافية قبل أكثر من 70 عاماً عرضوا على عباس محمود العقاد وكان رئيساً للجنة الشعر في وزارة الثقافة قصيدة لعبد المعطي حجازي فكتب جملته الشهيرة الساخرة يحول إلى لجنة النثر، بينما كان الشاعر كامل الشناوي يقف دائماً مع التجديد، رغم أنه يكتب أشعاره ملتزماً بالوزن والقافية، بيد أنه قال إن هناك فارقاً بين أن تقرر المرأة حلق شعرها وأن تجدد في تسريحة الشعر، وأنه لا يطيق أن يرى المرأة صلعاء ولكنه مع تجديد الوزن والقوافي ومع ذلك صارت بعض النساء تفضلن الرأس على (الزيرو) وهو ما حدث أيضاً للشعر!.
مفردات نزار قباني تضعها مثلاً في إطار الخروج عما هو متعارف عليه، كان سيد درويش متمرداً عندما أنصت إلى مفردات الناس في الشوارع وإلى نداء الباعة الجائلين، وأحالها إلى أنغام، بينما من سبقوه كانوا يُقدمون أغاني الصالونات، الواقعية الجديدة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية تحررت من صندوق اسمه (الاستوديو) شكلياً ولكن التحرر الفكري هو الأهم، حيث صارت تملك نظرة حميمة للحياة، الموضة هي علاقة خاصة مع الصندوق، وعندما تخرج عنها فأنت في هذه الحالة تعبر عن شيء كامن في الصدور متجاوز ما هو سائد.
قديماً قالوا (الإنسان عدو ما يجهل) رغم أن التقدم لا يحدث إلا عندما يحطم الإنسان هذا العداء ويصادق ما يجهل، ويبقى الأهم من الصندوق وهو المفتاح، من يملكه يستحق التمرد، إلا أننا مع الأسف كثيراً ما نكتشف بعد فوات الأوان أننا أضعنا المفتاح!!