خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

بعد ما شاب راح للكتاب

حماقاتي كثيرة. وأبدأ بواحدة منها. لم أعبأ طيلة حياتي بتعلم السباحة، ولكنني ذهبت وتعلمتها بعد أن تجاوزت الستين عاماً. وكان ذلك تطبيقاً للمثل القائل: «بعد ما شاب راح للكتاب».
ولماذا فعلت ذلك؟ لأنني رأيت أولادي يتعلمون السباحة في صباهم فغرت منهم. غير أن جندياً عراقياً فاقني في هذا المضمار. اقتضى عليه أن يعبر نهر ديالى في وسط العراق، ولم يكن يجيد السباحة. فسأل الضابط (وهذه أول حماقة) عما إذا كان يجوز له أن يعبر النهر. فقال له نعم.
لم يتقدم غير بضعة أقدام حتى وجد الماء أعمق مما تصور. كاد يغرق ولكنه نجا بأعجوبة، فشكا للضابط سوء نصحه فأجابه قائلاً: «قبل دقيقتين جاءت بطة وبعيني الثنتين شفتها نزلت في النهر، وحركة رجلها شوية وعبرت. يعني البطة أحسن منك، وأنت جندي وابن عشيرة؟».
رويت هذه الحكاية لصديقي أبو أحمد، فقال: «نعم ولكن حكايتك ليست أغرب من حكاية ذلك الرجل، الذي وقف على الجسر باسطاً يده بشيء من الخبز. فذهبت إليه أستفسر عما يفعله. فقال دون أن يحرك رأسه أو يده، أنا رافع يدي أنتظر أن يوكر عليها طير خضيري حتى أمسكه، وأبيعه لمن يحبون أكل لحم الطيور!»، ضحك صاحبي منه وقال: أولاً: لا توجد طيور خضيري في بغداد، ولا في أي مكان من العراق بعد الثورة.
وثانياً: الخضيري طيور وحشية ما تأمن بالإنسان، ولا سيما عندما يمد يده فوق الجسر. هذه حماقة ما بعدها من حماقة. ولكن الرجل أجاب صاحبي أبو أحمد قائلاً: روح اشتري بعقلك حلاوة. لحد الآن أحد ثلاثة من الأفندية المثقفين، قاعدين في المقهى ينظمون الشعر دفع لي عربوناً على الطيور هذي، ما يعرف أنه ما توجد طيور خضيري في بغداد!
ويظهر أن هذا الأستاذ المثقف قد تعلم حماقاته من مثقف آخر. وهو الأستاذ ميخائيل تيسي، صاحب جريدة «كناس الشوارع» الهزلية. قيل إنه كان جالساً في المقهى نفسه وطلب من النادل أن يأتيه بقطعة ثلج ليضعها في قدح السينالكو الذي أمامه، وعندما جاءه بقطعة الثلج توجس وسخاً فيه ولم يجد ما يغسله به. فأخذ يدير من السينالكو عليه يغسله بها، وعندما انتهى من هذه العملية لم يجد أي سينالكو بقي في القدح، ولا من الثلج ما يضعه فيه.
أجابني أبو أحمد فقال يا أبو نايل، ميخائيل تيسي قتلوه بسبب نكتة كتبها في صحيفته الهزلية، قبل دخول السينالكو للعراق بعدة سنوات. قلت له: يا حبيبي أبو أحمد، ميخائيل تيسي هذا كان أحمق وروى نكتة للعراقيين، تريد مني أن أكون أكثر حمقاً منه، فأذكر لقرائنا المسلمين اسم المشروب الذي كان حقاً في القدح؟
تراثنا العربي به كثير من حكايات الحمقى والمتحامقين، وعلى رأسهم الأحمق الكبير هبنقة رحمه الله.
ورغم كوني واحداً من هؤلاء الحمقى الذين تركوا كل ما على الأرض من مهن، وامتهنوا الصحافة، فإنني لم ولن أتعرض لحماقات بعض من زعمائنا ومفكرينا.