إميل أمين
كاتب مصري
TT

العولمة بين العنصرية والقومية

هل للمرء أن يتساءل عن آفة الشعوب المعاصرة في القرن الحادي والعشرين بنوع خاص؟
الشاهد أننا نجد أنفسنا اليوم بإزاء ازدواجية غير عقلانية بالمرة، فعوضاً عن أن تكون العولمة عاملاً مجمعاً ومقرباً للأمم والشعوب، فها نحن نراها ترسخ وتعمق أفكار العنصرية والقومية، وتدفع نعرات الطائفية إلى الاستيقاظ.
انظر إلى الخريطة الجغرافية من مشارق الأرض إلى مغاربها، سوف تجد حالة غير مسبوقة للتراجع عن فكرة العولمة، فالأميركيون ومن جديد يسعون إلى فكرة «أميركا أولاً»، وعلى الجانب الآخر من البسيطة نجد روسيا تسعى لأن تغير نشيدها الوطني لتستبدل به النشيد القديم «حفظ الله القيصر»، أما عن أوروبا فحدث ولا حرج عما يجري فيها من صيحات يمينية متطرفة تكاد تعصف بهدوئها واستقرارها الذي حافظت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة.
على أن علامة استفهام جوهرية لا بد من طرحها ونحن في سبيل البحث عن الأسباب التي دعت إلى تفاقم ظاهرة العنصرية في القرن الحادي والعشرين... هل الحركات والتحركات السياسية لها علاقة ما بصعود أو هبوط منحنى العنصرية؟
بداية لا بد أن نشير إلى أن طروحات العولمة، بما صاحبها من أفكار رأسمالية متجاوزة للحدود، وعابرة للسدود، قد سعت إلى جَعْل العالم سوقاً كبيرة، لا تجمعات إنسانية لها خصائص بشرية، بمعنى أن الشركات العابرة للقارات، والتجمعات المعروفة بـ«لوبيات الضغط»، كالمجمع الصناعي العسكري الأميركي، أو المجمع المالي في وول ستريت، باتت تتعامل مع الدول على أنها كيانات تابعة، أو أرقام مالية لا تخضع إلا لمعايير الربح والخسارة، وهنا اكتشفت أمم وشعوب كثيرة أنها باتت تتماهى مع غيرها إلى حد الذوبان في الآخر، ومن ثم ضياع الملامح الشخصية، واضمحلال التراثات الروحية والثقافية، والمؤكد هنا أن الغلبة كانت ولا بد من نصيب القوى الأكبر والأكثر قوة ومنعة على كل الأصعدة السياسية والعسكرية، المالية والاقتصادية.
في هذا السياق، كان لا بد لكثير من أمم وشعوب العالم أن تسعى للعودة للاحتماء خلف جدران القوميات والهويات الدينية والإنسانية، ما خلق إشكالية أخرى هي الهوية التي باتت بدورها تتقاطع مع أزمة العنصرية.
يتضح لنا إذن أن إشكالية العنصرية باتت وثيقة ولصيقة بحركات اليمين الشعبوي، الذي يصنف الناس وفقاً لانتماءاتهم المتعددة، ومن يخرج عن تلك التصنيفات أو التوصيفات يقرع بأنه عدو تماماً، كما حدث مع اليهود في ألمانيا، على نحو خاص أثناء الحكم النازي.
على أن هناك بعداً آخر في المسألة يتصل بأشكال الكفاح السياسي التي مارستها مجموعات تابعة لمدة نصف قرن قد تركت أثراً مهماً، فقد استحوذت حركات حقوق الإنسان المدنية و«القوة السوداء» في الولايات المتحدة على وصف «أسود» الذي كان وسماً ازدرائياً حتى ستينات القرن العشرين، وأعيدت إليه قيمته، ومنح شعار «الأسود الجميل»، التمكين لمجموعات سكانية كانت تُزدَرَى بوصفها بـ«الزنوج» و«الملويين» في كفاحهم لنيل الحقوق المدنية.
السؤال الحيوي هنا: هل من أفق لمستقبل ما بعد عرقي؟
في عام 1903، تنبأ عالم الاجتماع الأميركي الأفريقي الأصول والجذور دو بويس، بأن «معضلة القرن العشرين ستكون مسألة الفصل العنصري»، وفي عام 2006 نشر المؤرخ البريطاني نيال فيرغسون، ما أعلن عنه أنه بمثابة تفسير جديد رئيسي للقرن العشرين، وقد حاجج فيرغسون في كتابه «حرب العالم»، بأن فكرة «العرق» وطريقة تشابكها مع الإثنية، وانهيار الإمبراطوريات متعددة القدميات كانت أحد الدوافع الرئيسية، وربما العامل الضمني الأساسي في تحديد الصراعات في القرن العشرين.
والمؤكد أن مسألة مستقبل العنصرية وتصاعدها، والمد القومي اليميني وتجلياته إلى مدى بعيد، بات أمراً مشكوكاً فيه، وقد جاءت الانتخابات الفرنسية الأخيرة لتضعنا أمام حقيقة مثيرة، ولطمة لليمين المتطرف، فقد خسرت الجبهة الوطنية الرئاسة، وفاز بها من يسعى إلى الأمام في غير عنصرية بغيضة.
ولعل ما يجعلنا نوقن بأن العنصرية ليس أمامها زمن طويل أو مستقبل عريض، هو أن إحياء النزاعات القومية المختلفة ومشاريع الاستثنائية الثقافية يجري في وقت يحدث فيه انفجار لعدد وافر من الهويات المتجاوزة للقومية، والشتاتية والإثنية والدينية والسياسية والمتعلقة بأسلوب الحياة، والجندر.
سوف تنهزم العنصرية حتماً وحكماً، لأننا نعيش في عالم يمكن للأفراد أن يستحدثوا ويعيدوا استحداث هويات وخليط من الهويات، وكجزء من أزمة «انتماء» مزمنة في فترة تشهد عولمة أكثر تكثيفاً يطور عدد كبير من الأفراد ولاءات والتزامات نحو عدد وافر من الأماكن، والثقافات، المتجاوزة الروابط التقليدية للأمة، والإثنية والدين.
في الهند يشجع محبو فريق كرة القدم في «كولكوتا» فريق دولة البرازيل في كأس العالم، وفي اليابان نشأت ثقافات ثانوية للشباب «السود» حيث يصفف الشباب شعرهم في شكل عقائص، ويغنون موسيقى الراب، ويستخدمون نسخاً من لغة الشارع الأميركية للسود وأسلوبهم.
الخلاصة هي أن القرية الكونية تمج العنصرية وتطردها خارجاً، وهذه هي الحقيقة التي تغيب عن ناظري العنصريين من جهة والشعبويين والقوميين من جهة ثانية، فالهوية الإنسانية مهما تباعدت البشر تبقى واحدة، وساعتها تظهر ملامح ومعالم العولمة الإيجابية لا السلبية.