لم يظهر الشرق الأوسط أكثر اضطراباً من الوقت الحالي إلا في القليل النادر. أطلقت طائرة إيرانية من دون طيار النيران على التنف في جنوب سوريا، حيث تُجري الولايات المتحدة تدريباً لقوات محلية على قتال «داعش». وقامت قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بإسقاط الطائرة. أشار بيان البيت الأبيض بعد الحادث إلى أن الولايات المتحدة مستمرة في وجودها في التنف منذ العام الماضي، وأن الموقع يدخل في نطاق الاتفاق الذي تم مع الروس على تخفيف حدة النزاع، ولكن الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران في سوريا تحركت صوب هذه المنطقة وأطلقت النار على القوات الأميركية.
هل فعلوا ذلك لأنهم يسعون إلى إنشاء ممر يمتد من العراق وعبر سوريا إلى لبنان، ويرغبون في منع الجماعات التي تدعمها الولايات المتحدة من تثبيت أقدامها في شرق سوريا، لا سيما وأن عمليات تحرير الرقة جارية؟ لا شك في أن هذا هدف إيراني أساسي، ويظهر جلياً من خلال قيام الميليشيات الشيعية في العراق بإزاحة «داعش» من طريقها على الحدود العراقية السورية، ومن خلال القرار الإيراني الأخير بإرسال قوات «حزب الله» إلى شرق سوريا في دير الزور.
وفي ظل تأكيد زيارة الرئيس ترمب إلى المنطقة على دعمنا لأصدقائنا العرب التقليديين في المنطقة، قد يبعث الإيرانيون إشارات أخرى أيضاً: أنهم سيتحركون ولن يكتفوا بالحديث. وسوف يختبرون ما تستعد الولايات المتحدة لفعله في سوريا، وعلى الأقل يؤكدون على أن إيران عازمة على تعزيز الوجود الإيراني حتى مع تحركها للسيطرة على الحدود مع العراق والأردن.
من المؤكد أن إدارة ترمب لم تكن سلبية في مواجهة تحركات الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران للتوسع في المناطق التي تقع بها قوات خاصة أميركية في سوريا. وللمرة الثانية حتى الآن، في 18 مايو (أيار) ومجدداً في 8 يونيو (حزيران)، استهدفت القوات الأميركية القوات المدعومة من إيران أثناء زحفها إلى تلك المناطق. بيد أنه من الجدير بالذكر أن بيان البيت الأبيض في توضيحه لعملية إسقاط الطائرة الإيرانية من دون طيار، أكد على أن تحالفنا «لا يسعى إلى قتال» القوات الموالية للأسد، ولكنه «يدافع عن نفسه» ضد تلك القوات إذا تحركت إلى «منطقة تخفيف حدة نزاع ثابتة». بمعنى آخر، رسالة الإدارة هي أن الأولوية لدينا هي قتال «داعش» وليس إيران والميليشيات الشيعية العميلة لها أو نظام الأسد.
هذا البيان كافٍ، ولكن يجب أن تدرس الإدارة أيضاً المضامين الواسعة لما يحدث الآن. تعني الجهود الإيرانية لإنشاء ممر من العراق وعبر سوريا أنه من الصعب تنفيذ استراتيجية ناجحة في مواجهة «داعش» إذا لم يكن هناك أيضاً استراتيجية للتعامل مع سوريا وسعي إيران الواضح للتوسع في نفوذها وإقامة جسر بري يمتد من إيران إلى لبنان. ولعل التحدي الذي تواجهه الاستراتيجية الأميركية لمواجهة «داعش» يظهر جلياً بعد إجلاء «داعش» من الرقة. أقول ذلك لأن تسليحنا لقوات الحماية السورية، المسماة وحدات حماية الشعب الكردية، يؤكد على التناقضات المحتملة في الطريق الحالية؛ إذ تعد وحدات حماية الشعب فعَّالة في القتال ضد «داعش»، ولكنها أيضاً على صلات بنظام الأسد. فهل ستدعوه إلى الرقة بعد هزيمة «داعش» هناك؟ وإذا حدث ذلك، خاصة بالنظر إلى نقص القوى البشرية العسكرية السورية، واعتماد سوريا على الميليشيات الإيرانية، قد يتم إخلاء الرقة من «داعش» وتكون إيران هي المستفيد. وإذا تركنا مضامين ذلك على المنطقة جانباً، وإذا كانت هذه هي النتيجة، فسوف تُمهد الأوضاع لظهور تنظيم «متحدرٍ من داعش». فإذا عاد نظام الأسد للظهور في الرقة إلى جانب الميليشيات الإيرانية، من المؤكد أن الطائفية والقمع الذي أسفر عن ظهور «داعش» في المقام الأول سيتكرران من جديد. وبالتأكيد لا يرغب الرئيس ترمب، الذي اتهم الرئيس أوباما أنه المسؤول عن ظهور «داعش» بسبب انسحابه من العراق، في ظهور نسخة أخرى من «داعش» في ظل رئاسته.
تحتاج الإدارة الأميركية إلى التركيز على ما سيأتي بعد «داعش» في الرقة (والموصل أيضاً). يجب أن تستعد الولايات المتحدة بخطة قابلة للتنفيذ لإعادة الإعمار، وإحلال الأمن والحُكم وإشراك السُنَّة بمجرد طرد «داعش».
ولأجل هذا الهدف، يجب أن يؤدي السعوديون والإماراتيون وآخرون في مجلس التعاون الخليجي دوراً. سوف تكون إعادة الإعمار والحُكم صعبة للغاية دون دعم تلك الدول المادي والسياسي. وهي تركز في الوقت الحالي على قطر للضغط على أمير قطر لإنهاء سياسة نظامه المزدوجة؛ حيث يسمح بالاستخدام الأميركي لقاعدة العديد الجوية، ويحصل على ضمان أمن أميركي، حتى مع دعم القطريين للإخوان المسلمين وحماس وغيرهما من الجماعات الإسلامية التي تضم تنظيمات تابعة لـ«القاعدة». قامت السعودية والإمارات والبحرين ومصر بقطع العلاقات وتبنت مقاطعة مؤثرة تعكس شعوراً جماعياً بالإحباط تجاه نظام يستخدم مميزاته النقدية وقوته الناعمة عبر منصات مثل «الجزيرة» لتبني التنظيمات ذاتها التي نقاتلها جميعاً.
فماذا يجب على الإدارة الأميركية أن تفعل؟
لنبقَ متأهبين. ونستوعب أننا نحتاج إلى السعوديين والآخرين لمساعدتنا على تشكيل الواقع في مرحلة ما بعد الرقة والموصل. وبالطبع، يمكن أن تؤدي تركيا دوراً مفيداً هنا، ولكن لن يحدث ذلك إلا إذا وجدوا أننا لا نشترك مع موقف وحدات حماية الشعب الكردية في المنطقة. لذلك يجب أن نوقف أي محاولة لوحدات حماية الشعب لإحضار الأسد والإيرانيين إلى الرقة. ولكننا نحتاج أيضاً أن نوضح أننا لن نتسامح مع أي أحد يمارس لعبةً مزدوجة. وهذا يعيدنا إلى قطر. حان الوقت لنقول للقطريين إننا مستعدون للتخلي عن قاعدة العديد والضمان الأمني الضمني لقطر، إلا إذا توقفت عن دعمها للإخوان المسلمين ولم تُرحب على أراضيها بالإخوان وحماس و«طالبان» والجماعات المتصلة بهم. يمكن أن تصبح قطر شريكاً أميركياً، ولكنها يجب أن تتصرف كشريك بالفعل.
وفي هذا الصدد، يجب أن تتوقف الرسائل المختلطة التي تبعث بها الإدارة الأميركية: فمن جانب، يُنسَب للرئيس ترمب الفضل في حملة الضغط السعودي على قطر، كما أعلن بعد ذلك أن «قطر يجب أن تُوقف تمويلها للإرهاب» و«آيديولوجيتها المتطرفة فيما يتعلق بالتمويل»، في الوقت ذاته أشاد البنتاغون بإسهامات قطر في جهودنا العسكرية ودعا الوزير تيلرسون إلى إنهاء المقاطعة التي تقودها السعودية.
في مشهد مُربك، يجب ألا تدع الإدارة مجالاً للشك في أهدافها وأولوياتها، وإلا قد توسع إيران نفوذها في سوريا، وقد يظهر تنظيم «متحدر من داعش» في أي وقت، وسوف تستمر قطر في ممارسة لعبتها المزدوجة.
TT
قطر وممارسة لعبتها المزدوجة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة