د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

معضلة العملات الرقمية

نشأت أول عملة رقمية في شبكة الإنترنت في عام 2009 وتبعتها بعد ذلك الكثير من العملات عبر السنوات، واختلفت أهداف إنشاء العملات الرقمية بين عملة وأخرى، إلا أن الهدف المشترك في معظمها هو خلق طريقة دفع آمنة بين طرفي البيع دون وجود طرف ثالث يأخذ عمولة على تحويل مبلغ الصفقة ودون احتمال غدر أحد الطرفين بالآخر. وارتبطت العملات الرقمية كثيراً في بداياتها بعمليات النصب والاحتيال في الإنترنت؛ ذلك بأن أي شخص بإمكانه وضع عملة وبيعها على الناس دون أي ضمانات. ومع الوقت برزت عدة عملات حصلت على ثقة مستخدمي الإنترنت أشهرها «بيتكوين» و«إيثريوم». واتبعت العملات الرقمية سلوك العملات المركزية (التابعة لبنوك مركزية) في تذبذب سعر العملة بحسب قوانين العرض والطلب الاقتصادية. إلا أن وجود اختلافات بين نوعي العملة سبب اختلافات في سلوكهما بالمقابل، وبخاصة في نسبة تذبذب سعر العملة. فعلى سبيل المثال، ما كان قيمته 10 آلاف دولار من «بيتكوين» عام 2010، قيمته الآن تقارب نصف مليار دولار، وهو اختلاف دعا الكثير إلى ترقب انفجار ما سمي بـ«فقاعة بيتكوين» في أي وقت ممكن.
تبدأ معضلة العملات الرقمية باختلافاتها الجذرية مع المتعارف عليه من العملات المركزية الموجودة في هذا العصر، التي قام عليها النظام المالي العالمي الحالي. فالعملات الحالية بدأت من كونها سندات تعطى من البنوك التجارية للمودعين في حساباتها توثيقاً لهم بحقهم من الذهب أو الفضة لدى البنك. وتطورت هذه السندات حتى تحولت إلى عملات ورقية تقوم عليها البنوك المركزية التابعة للدول. وتكون هذه البنوك المركزية مسؤولة عن هذه العملات من حيث إصدارها وقيمتها المقابلة من الذهب الاحتياطي، سواء بانخفاض أو ارتفاع، متأثرة بالأوضاع الاقتصادية أو السياسية للدول. هذه الصفات الموجودة في العملات المركزية غير موجودة إطلاقا في العملات الرقمية، فهي غير تابعة لبلد بعينه ولا يقوم بها بنك مركزي؛ ولذلك هي لا تتأثر بعوامل أي دولة، وهي كذلك لا تستند إلى احتياطي من الذهب يبرر قيمتها الشرائية، إلا أنها تتساوى مع العملات المركزية بالصفة الأكثر أهمية، وهي أن لها قيمة تمكن حامليها من الشراء عبر الإنترنت.
أثارت هذه الاختلافات بين نوعي العملة كثيراً من النقاشات على عدة مستويات، أولها في جانب المستهلك أو حامل العملة، فبصرف عن النظر عن كون هذه العملة حقيقة أصلا وليست مجرد عملة وهمية يقف وراءها محتالو الإنترنت. فقد يشتري المستهلك العملة الرقمية من الإنترنت بقيمة معينة، من دون أي ضمانات على استقرار هذه العملة، فهو يشتري قيمة رقمية لها قيمة محدد وقت شرائها، وقد تختلف قيمتها كلياً في أي وقت بعد ذلك. والسبب في ذلك أن هذه العملة لا تقوم على دولة من مصلحتها الاقتصادية استقرار قيمة العملة، بل هي تقوم على مجموعة مستثمرين يملكون حق التصرف بهذه العملة. إضافة إلى ذلك، فإن المستهلك لو سُرق لن يُحمى من بنكه باستعادة ما سرق منه، كما هو الحال في البطاقات الائتمانية التي تستخدم عادة في الشراء عبر الشبكة العنكبوتية.
أما على جانب الدول فيبقى الجانب الأمني هو الأكثر حساسية، وفي خصائص العملة الرقمية ما قد يسبب للدول كثيراً من المشاكل الأمنية. فتتبع العملة الرقمية عبر الإنترنت شبه مستحيل. ولذلك فإن معظم المواقع المقدمة لخدمات غير قانونية عبر الشبكة تقدم هذه الخدمات مقابل عملات رقمية، وهو ما قد يشجع على كثرة هذه المواقع، بل إن كثيرا من حالات الابتزاز مؤخرا، تأخذ المقابل المادي على شكل عملات رقمية غير قابلة للتتبع، وآخر مثالين على ذلك الابتزاز الذي تعرض له موقع «نت فليكس» بسرقة أفلام منه، وطلب مقابل مادي لعدم نشرها للعامة وابتزاز فيروس «الفدية». وقد يكون للعملات الرقمية تأثير على اقتصاد الدول التي خرج جزء من النظام المالي عن سيطرة بنوكها المركزية، لا سيما «بيتكوين» التي وصلت قيمتها الإجمالية حاليا إلى 80 مليار دولار. وجود هذا التأثير بيد أشخاص لا دول قد يثير كثيرا من المخاوف لدى الحكومات التي لن تجد جهة بنك مركزي تخاطبه حيال هذه العملة. وعلى الرغم من كل هذه الاختلافات، فإن الحكومات بدأت في اتخاذ خطوات للتكيف مع العملات الرقمية، باعتبارها أمرا واقعا وعملة متداولة لها قيمة ومقابل بعد أن كانت بعض الدول كالصين تجرّم التعامل بها. بل إن بعض الاقتصاديين برر ارتفاع سعر «بيتكوين» الحالي بدخول بعض الحكومات سوق العملات الرقمية. ومؤخراً قررت الحكومة اليابانية التعامل مع «بيتكوين» بصفتها عملة أجنبية يمكن تداولها، ويُتوقع أن تلحق الكثير من الدول باليابان في هذا الصدد. إلا أن التحدي الموجود حاليا للدول ولمطوري العملات الرقمية هو مدى إمكانية تطوير مرونة العملات الرقمية. فهي بحكم حداثتها لا تملك المرونة التي تملكها العملة المركزية؛ ولذلك فإن تحويل العملات من رقمية إلى مركزية قد يستغرق وقتا يصل إلى ساعات. وقد تكون هذه بداية لنوع جديد من العملات الرسمية العالمية، وتطويراً جديداً للنظام المالي في العالم.