جستن فوكس
TT

ترمب على حق... الفائض التجاري الألماني كبير للغاية

تعدّ الفوائض التجارية الهائلة في ألمانيا مشكلة من المشكلات القائمة. ويتفق الجميع تقريبا - بما في ذلك الكثير من المواطنين الألمان - على هذا. ولكن عندما انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترمب العجز التجاري الأميركي في مقابل الفائض الألماني، كما فعل في صباح ذلك اليوم على موقع «تويتر»، وأعلن أن «ذلك الأمر لا بد وأن يتغير»، فقد أثار موقفه ذلك تساؤلاً مهما: كيف يمكن التغيير؟
كما هو واضح فإن الفائض في ميزان الحساب الجاري الألماني (التجارة بالإضافة إلى تدفقات الدخل) مستمر في النمو حتى في الوقت الذي شهدت فيه الدولتان الأكثر شهرة عالمياً من حيث الفوائض التجارية - الصين واليابان - حالة من الانكماش الغريبة. وفي عام 2016، تجاوز الفائض الألماني في ميزان الحساب الجاري الفائض التجاري الصيني من حيث القيم المطلقة (297 مليار دولار لصالح ألمانيا مقابل 196 مليار دولار لصالح الصين)، على الرغم من أن الاقتصاد الصيني يتجاوز حجم الاقتصاد الألماني بثلاثة أضعاف.
ولقد نما الفائض التجاري الثنائي الألماني مع الولايات المتحدة بصورة كبيرة للغاية على مدى الانتعاش الاقتصادي الجاري، على الرغم من الانكماش الذي شهده الشيء القليل منذ عام 2015.
أولا وقبل كل شيء، وبصفتي محرراً اقتصادياً، فأنا ملزم بموجب القانون أن أذكر أن العجز التجاري الثنائي مثل القائم بين الولايات المتحدة وألمانيا ليس في حدّ ذاته شيء سيئ. فإنني أعاني من حالة العجز التجاري الثنائية المتزايدة مع متجر البقالة الذي أبتاع منه احتياجاتي، وهذا أمر عادي طالما أمتلك ما يكفي من الدخل من مصادر أخرى لتغطية تلك الفجوة القائمة. ولكن عندما تعاني الدول من الفائض أو العجز في ميزان الحساب الجاري بصورة مزمنة، يمكن أن تكون هناك مشكلات بالفعل. وكما قال الرئيس الأسبق لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بن برنانكي في عام 2015:
حقيقة أن ألمانيا تبيع أكثر بكثير مما تشتري يؤدي إلى إعادة توجيه الطلب من جيرانها (وكذلك من بلدان أخرى في جميع أنحاء العالم)، مما يسفر عن انخفاض الإنتاج والعمالة خارج ألمانيا في الوقت الذي تصل فيه السياسة النقدية في الكثير من البلدان إلى أقصى حدودها الممكنة.
ومن شأن الاختلالات التجارية الكبيرة أن تؤدي إلى التدفقات المالية غير الصحية وغير المستدامة، تماماً كما حدث بين الولايات المتحدة والصين في الفترة السابقة على الأزمة المالية الشهيرة لعام 2008.
ولذلك، أجل، إن الفوائض التجارية الهائلة في ألمانيا هي فعلاً مشكلة. المشكلة التي يمكننا جميعاً (أو أغلبنا) الموافقة عليها. ولكن ما الذي يسبب هذه المشكلات؟ أعرب الرئيس الأميركي، الذي يعني الكثير بكلمة «صفقة»، عن تشخيصه للأمر في مارس (آذار) الماضي:
لقد أحسنت ألمانيا صنعاً بالفعل في صفقاتها التجارية مع الولايات المتحدة، وإنني أمنحها الإشادة الأكيدة على ذلك.
ونجد هنا حقيقة ماتعة: فلا وجود لما يسمى بالصفقات التجارية الألمانية مع الولايات المتحدة! فإن كل العلاقات التجارية بين البلدين تجري إدارتها عن طريق الاتحاد الأوروبي. وأجل، نجح الاتحاد الأوروبي في تحقيق فائض في التجارة السلعية مع الولايات المتحدة بقيمة 146 مليار دولار لعام 2016. وتمثل ألمانيا نسبة 44 في المائة من المبلغ المذكور، ثم آيرلندا التي تمثل نسبة 24 في المائة (حيث تقوم شركات الأدوية الأميركية بالكثير من الصناعات التحويلية هناك)، ثم إيطاليا بنسبة تبلغ 16 في المائة.
ثم مرة أخرى، دخلت دول أخرى من الاتحاد الأوروبي مثل بلجيكا وهولندا والمملكة المتحدة في حالة من العجز التجاري أمام الولايات المتحدة. ويفرض الاتحاد الأوروبي بالفعل الكثير من الرسوم والحصص على الواردات، وتفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه، ونادراً ما يُشار إلى هذه الحواجز التجارية باعتبارها من أسباب الفوائض التجارية الهائلة في ألمانيا. مما يجعل الأمر منطقياً، بالنظر إلى أن الكثير من هذه الحواجز كان قائماً بالفعل منذ التسعينات عندما كانت ألمانيا تعاني من عجز مزمن في ميزان الحساب الحالي.
لذا، ما هو السبب في تحول ألمانيا إلى تحقيق الفوائض التجارية الهائلة؟ هناك تفسيران جديران بالإقناع في هذا الصدد: (1) ميلاد عملة اليورو، و(2) الاقتصاد في الإنفاق الألماني.
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وضع صناع السياسة في ألمانيا الغربية تقوية وتعزيز العملة المحلية على رأس أولوياتهم. وفي الفترة بين عامي 1960 و1990، تضاعفت قيمة المارك الألماني نحو أربع مرات في مقابل الدولار الأميركي. ومنذ دمج المارك مع اليورو في عام 1999، رغم كل شيء، كان على ألمانيا تقاسم قيمة عملتها المحلية مع بقية دول منطقة اليورو. ومنذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، كانت هذه العملة تعاني من ضعف مستمر وظاهر - وكانت أضعف كثيراً من المارك الألماني إذا قُدر له أن يستمر كعملة محلية مستقلة في ألمانيا. ولقد أشارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى هذا المعنى حين قالت في فبراير (شباط) الماضي:
إن كنا لا نزال نعمل بالمارك الألماني، لكانت قيمته تُقدر بمعايير مختلفة تماما عن قيمة اليورو الحالية. ولكن هناك سياسة نقدية مستقلة ليست لدي حيالها كمستشارة للبلاد أي نفوذ أو تأثير.
يبدو هذا وكأنه انسحاب - وهو بالفعل انسحاب واضح! ولكنه موقف صحيح في غالب الأمر. فإن التأثير الألماني على مسار عملتها في الوقت الراهن محدود للغاية.
والمجال الوحيد الذي يستطيع الساسة الألمان بسط نفوذهم وتأثيرهم عليه هو الإنفاق. وكما قال مارسيل فراتسشر، رئيس المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية:
لدى ألمانيا واحدة من أدنى معدلات الاستثمار العام في العالم الصناعي. والبلديات الألمانية، وهي المسؤولة عن نصف إجمالي الاستثمارات العامة في البلاد، لديها في الوقت الراهن مشاريع استثمارية غير محققة بقيمة 136 مليار يورو، أو ما يساوي 4.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد، وإصلاح وصيانة المباني المدرسية في ألمانيا يحتاج وحده إلى ميزانية بقيمة 35 مليار يورو. وفي الوقت نفسه، تشهد الاستثمارات الخاصة في الأسهم الرأسمالية الألمانية القديمة ضعفاً من قبل الكثير من الشركات المحلية الراغبة في الاستثمار في الخارج.
ولدى ألمانيا أيضاً معدل ادخار منزلي مرتفع بشكل دائم، وهي تحقق في الوقت الراهن فوائض كبيرة في الميزانية الحكومية، وكانت حذرة على وجه العموم من الجهود المبذولة لتوسيع الاتحاد النقدي الأوروبي إلى نظام مالي موحد يتم فيه تقاسم المزيد من الأعباء عبر الخطوط الوطنية للبلدان. لذلك فإن المشكلة مع ألمانيا لا تتعلق كثيراً بارتفاع معدلات التصدير للخارج، ولكن بانخفاض معدلات الإنفاق في الداخل. وإنني أشكك في أن يتمكن الرئيس دونالد ترمب من التأثير بصورة كبيرة لتغيير هذه التوجهات. ولكن قد يستطيع ذلك الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون!
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»